مقــــــــالات


نشأة القصة القصيرة جدا :
ظهرت أل ( ق.ق جدا ) في أمريكا اللاتينية مع بدايات القرن العشرين لتنتقل بعد ذلك إلى أوربا الغربية ثم رهصت في العقود الأخيرة من القرن العشرين في بلاد الرافدين والشام وخاصة سورية وفلسطين وظهرت في المغرب وتونس بشكل متميز وناضج في بداية الألفية الثالثة ولان للمغرب خصوصية في غلبة المشهد القصصي على الشعري فأننا نستطيع تتبع مراحل تطور هذا الجنس الأدبي في المغرب  كأنموذج - على الرغم من تأخر ظهوره في المغرب نسبة للعراق والشام - لبيان أهمية هذا الجنس الأدبي وأحقيته بالتعايش السلمي مع الأجناس الأدبية الأخرى والكف عن محاربته .
    حظيت القصة القصيرة جدا في المغرب باهتمام كتاب القصة أمثال محمد إبراهيم بوعلو ومحمد زفزاف واحمد زيادي وأحمد بوزفور وزهرة زيراوي وحسن برطال ومصطفى لغتيري  ومحمد تنفو وعبد العالي بركات وسعيد بو كرامي وجمال بو طيب . فقد كتب هؤلاء القصة القصيرة جدا منذ 1983 ، وقد تميز المغرب بوجود مجموعة من الكتاب قد تخصص في كتابة هذا الجنس وخصصوا مجموعات تحت لواءه ثم ما لبثوا أن قاموا بأعمال تجريبية كاستخدام تقنيات جمالية وفنية أحدثت اهتزازا في كلاسيكية القصة القصيرة جدا كالانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى والتلاعب بالنسق السردي وإعمال الاستعارة والتشخيص والترميز ، فتطور هذا الجنس في المغرب ليس بالغريب فالكتاب المغاربة تواقون للتجريب استجابة لعوامل موضوعية أو تاريخية أو سياسية فإدريس الناقوري يقول في حديث عن التجريب في الأقصوصة المغربية
( ان  العامل الحاسم في هذا التحول ، إنما يتمثل في طبيعة الواقع الموضوعي ، التاريخي والسياسي ، الذي سجل عدة تناقضات تبلورت في صراعات كثيرة ) 4 ومن أهم المجاميع التي ظهرت حاملة هوية هذا الجنس الأدبي : مجموعة محمد إبراهيم بوعلو تحت عنوان ( خمسون أقصوصة في 50 دقيقة ) ومجموعة جمال بو طيب تحت عنوان ( زخة ... ويبتدئ الشتاء ) ومجموعة حسن برطال تحت عنوان ( أبراج ) ومجموعة مصطفى لغتيري تحت عنوان ( مظلة في قبر ) فضلا عن القصص المتميزة كقصة جمال بو طيب ( ياسين والوادي ) وقصته
( تلفزيون) وقصة مصطفى لغتيري ( مالك الحزين) وقصته ( المومياء)
  
مسميات الجنس الأدبي:-
مر هذا الجنس الأدبي بمسميات عديدة ففي اليابان تدعى ( قصص بحجم راحة اليد ) وفي الصين ( قصص أوقات التدخين ) , وفي أوربا اللاتينية سمية ( قصص ما بعد الحداثة ) وفي أمريكا ( قصص الومضات ) وهناك تسميات عديدة مثل ( قصة الأربع دقائق ) و ( العشرون دقيقة ) و ( القصص السريعة ) و ( القصص الصغيرة جدا ) و ( المجهرية ) و ( قصص برقية) و(الصعقة ) و ( شرارات ) و ( بورتريهات ) و ( مشاهد قصصية ) و ( القصة القصيرة الشاعرية ) و ( قصص قصيرة جدا )
  
سمات القصة القصيرة جدا:-
لنجاح أي جنس أدبي جديد لا بد من حمله لتوصيفات محددة إلى حد ما تجعل له مساحته الخاصة , لذلك لابد من تعريف هذا الجنس الأدبي وفق تلك التوصيفات .
  القصة القصيرة جدا :- جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة السردية الموجزة والمقصدية الرمزية والتلميح والاقتضاب والتجريب والجملة القصيرة الموسومة بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث .
انطلاقا من هذا التعريف نلاحظ إن القصة القصيرة جدا فن اشد صعوبة من القصة القصيرة رغم ان فن القصة القصيرة ( لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على سطح الذاكرة )5  فكيف بالقصة القصيرة جدا , وإذا تجاوزنا بعض التوصيفات السابقة في تعريف هذا الجنس الأدبي  فحتما اننا لا نستطيع تجاوز معيارين مهمين هما :-
1- المعيار الكمي        2- معيار الكيفية والمقصدية .
     فالمعيار الكمي هو الذي يحدد قصر حجم القصة أما معيار الكيفية والمقصدية فبهما تقوم المقومات السردية كالأحداث والشخصيات والبنية الزمانية - وان كانت توظف بشكل مكثف - ولا بد من الإشارة إلى أن المعيار الكمي يتحقق من التكثيف واختيار الجمل المناسبة والابتعاد عن الإسهاب واللجوء إلى الإضمار والحذف , وتلعب اللغة دورا مهما وأساسيا في القصة القصيرة جدا لضرورة احتواء هذا الجنس الأدبي على اللغة الشعرية فأدغار الان بو يقول
( يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب )6 ويوسف إدريس يقول في حديث له عن القصة القصيرة ( إن الهدف الذي أسعى إليه هو أن أكثف في خمس وأربعين كلمة ,- أي في جملة واحدة تقريبا - الكمية القصوى الممكنة من الإحساس , باستخدام اقل عدد ممكن من الكلمات )7 فالتكثيف هاجس كل مبدع  يريد الارتقاء بنصه لمستوى العالمية ويمكننا استعارة مقولة الناقد ( اج.ئي.يتس ) في كتابه ( القصة القصيرة الحديثة ) حين وصف هيمنجواي بـ
( الرجل ذي الفأس الذي يقتلع غابة كاملة من الإطناب )8.
  
 شعرية القصة القصيرة جدا :
على الرغم من خصوصية هذا الجنس الأدبي من حيث قلة الأحداث التي يحتويها إلا انه ما يزال جنسا أدبيا ينتمي للسرد لأننا ننظر للنص على أساس ( مستوى تنسيق الإشارات السردية . لا على مستوى الأحداث )9 ولذلك فان شعرية النص السردي لابد أن تتحقق في القصة القصيرة جدا ، فالعلاقة بين الشعرية والسردية علاقة العام بالخاص ، فالشعرية تهتم بالأشكال الأدبية كافة والسردية : ما هي إلا شعرية مقيدة) 10 والعنصر المشترك بين الشعر والفنون النثرية هو ان كلا منهما يشتغل باللغة كمادة أولية ( لكنهما يفترقان في كيفية توظيفها )11 فاللغة عنصر مهم لبث الروح في القصة وجعلها كائن نابض في الحياة حتى تبتعد عن الرتابة , فكاتب القصة الجيد يرتكز ويؤكد على أهمية اللغة فهذا موسى كريدي  في عام 1965 يؤكد على اللغة فيقول ( ومشكلة قصاصينا أيضا، إنهم لم يفهموا بعد عبقرية اللغة وطواعيتها ، لم يدركوا إدراكا واعيا قدرتها على الأداء والتعبير ) 12 فالكاتب حينما يقوم بالتمرد والتجاوز على اللغة التقريرية واليومية فانه يضعنا ( قسرا في حالة من الوعي والانتباه ) 13 فالقصة المشحونة بلغة عالية قادرة على ( التصوير بدءا من ابسط أنواع المجاز ) 14 لذلك نلاحظ أن اغلب القصص القصيرة جدا والتي حققت حضورا كبيرا مشحونة بالشعرية ، والغريب إن من يهاجم هذا الجنس الأدبي يضرب معوله في حائط شعريتها العالي محاولا إخراجها من بيت السرد وإبقائها على باب الشعر تنتظر إذن الدخول ، ويمكنني التصور إن النص القصصي سواء كان ( قصة قصيرة أو أقصوصة أو قصة قصيرة جدا ) لابد أن يمتلك لغة شعرية عالية، واذكر بما أطلقه الناقد شجاع مسلم العاني على الشعرية في القصة القصيرة الجديدة حين قال ( إن هذا التيار يقترب من الاتجاهات الجديدة في القصص العالمي المعاصر ) 15  ومن يقرا القصص القصيرة جدا قراءة متأنية ومنصفة يدرك أن الشعرية خصيصة ذاتية كامنة في هذا الجنس الأدبي ، فالبنية الداخلية للنصوص الجيدة من هذا الجنس تؤهله للسكن في بيت عائلته ( السرد)  وهو لا يضمن الشعر كنص خطابي مقحم وإنما يميل لإنتاج نص سردي بتراكيب ذات معان عالية لتصبح اللغة الشعرية جزءا من النسيج الكتابي وركنا مهما من أركان بناء القصة القصيرة جدا وبذلك يحقق هذا الجنس خطابا قصصيا تفاعليا متطورا عما كان عليه خطاب القصة القصيرة مبشرا باجناسية تتناغم مع ما تدعو له دراسات ما بعد الحداثة فضلا عن تناغمه مع توصيفه الكمي ، والمتتبع الجيد لهذا الجنس يكتشف انه تطور طبيعي للقصة القصيرة والأقصوصة فلو عدنا إلى الستينيات لوجدنا القصة القصيرة عرفت هذا الاتجاه الشعري ، فالدراما والشعر راحا يتناغمان في خلق تجربة جديدة وبذلك انعطفت القصة القصيرة نحو التجريب والحداثة حين اشتغلت على الثيمة الشعرية تضمينا كما فعل القاص احمد خلف في قصته ( نزهة في شوارع مهجورة) في مجموعته التي تحمل ذات الاسم فضمن قصيدة الشاعر محمد الماغوط على لسان بطل قصته ، ومن القصص الستينية التي اشتغلت بلغة شعرية قصة ( الصوت العقيم ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي في مجموعته ( السيف والسفينة) ، فالقصة القصيرة في تجربتها أدخلت اللغة الشعرية إلى النص في حين إن أل( ق.ق.جدا) اعتمدت النسيج الشعري في تكوينها وتبقى الكلمة الفصل لهذا الجنس الأدبي فيما سيحققه من حضور في الوسط الأدبي .

 
مميزات القصة القصيرة جدا ومرجعياتها الثقافية والواقعية

(أضمومة " تسوناني" لمصطفى لغتيري نموذجا)

٢١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨بقلم جميل حمداوي

تقديــــم:

تعد القصة القصيرة جدا من أهم الأجناس الأدبية الحديثة التي ارتبطت بالتحولات المعاصرة للإنسان في القرن العشرين، هذا القرن الذي بدأ يعرف حياة متقدمة سريعة بفضل التطور التقني والعلمي والصناعي والرقمي؛ مما جعل الإنسان يعيش في دوامة من الاضطرابات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومن جراء ذلك ،هاجر الإنسان حياة الفطرة والبساطة ، وابتعد عن نقاء البادية والطبيعة لينتقل إلى فضاءات المدينة التي ألغت التأمل والبطء في التفاعل مع الأشياء ليجد الإنسان نفسه في دوامة من التغيرات التي تستوجب السرعة في التكيف والتأقلم مع مستجدات العالم الموضوعي. وقد أثر هذا الجانب سلبا على المستويات الحياتية والثقافية والتعليمية، فتخلى الإنسان عن قراءة النصوص المسترسلة والروايات الطويلة، وعوضها بالنصوص الأدبية القصيرة وقراءة عناوين مقالات الصحف والأعمدة المثبتة على صفحات الجرائد والمجلات مع ملء الكلمات المتقاطعة وتأمل الصور الفاتنة المثيرة واللوحات الأيقونية البارزة، والمؤشرات الإشهارية الجذابة.

لهذه الأسباب والدواعي، ظهرت القصة القصيرة جدا لتستجيب لهذه التحولات المعاصرة السريعة،و وقد تفرعت كما هو معلوم عن مجموعة من الأجناس الأدبية المجاورة كالقصة القصيرة والأقصوصة والرواية بله عن خطابات أخرى كالحديث والخاطرة والمثل والنكتة والنادرة واللغز. كما ارتبط هذا الفن المستحدث على مستوى التلاقح المرجعي والثقافي بالقصة القصيرة جدا Microrrelatos التي ظهرت بأمريكا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

ولم تظهر القصة القصيرة جدا في عالمنا العربي إلا في العقود المتأخرة من القرن الماضي بالشام والعراق لتنتقل عبر ربوع العالم العربي لتزدهر في المغرب مع مجموعة من القصاصين المتميزين، ونذكر منهم على سبيل المثال: الكاتب المغربي المبدع مصطفى لغتيري في مجموعته القصصية القصيرة جدا" تسونامي" التي صدرت عن منشورات أجراس بالدار البيضاء في طبعتها الأولى سنة2008م في64 صفحة من الحجم المتوسط. إذا، ماهي مميزات هذه المجموعة على مستوى الدلالة والمرجع والبناء الجمالي؟

أ/ " تسونامي" والأسئلة الكبيـــرة:

على الرغم من صغر حجم القصص التي كتبها مصطفى لغتيري في مجموعته" تسونامي"، فإنها تطرح أسئلة كبيرة، وتعج بالقضايا الذهنية العويصة ، والإشكاليات الإنسانية الميتافيزيقية ذات الطرح الأنطولوجي والمعرفي والقيمي.

وهكذا نجد مصطفى لغتيري يفلسف الانطولوجيا الوجودية بالمفهوم السارتري ، ويتناول إصرار المرأة على التحرر الوجودي في قصة " نكاية" (ص: 23) التي يقول فيها الكاتب: " منحني الظهر، منشغل البال، كان سارتر يمضي حثيثا، شابكا يديه وراءه، وهو يردد- بلا ملل- لازمته الأثيرة...

" الوجود أولا...الوجود أولا أولا..."

نكاية فيه كانت سيمون دي بوفوار، عن كثب ، تقتفي خطواته، بعبوس وتحد ظاهرين وهي تردد بإصرار..

" المرأة أولا...المرأة أولا...."

كما يفلسف مصطفى لغتيري مفهوم الموت باعتباره شرا ميتافيزيقيا ووجوديا في قصته التي تحمل نفس الاسم، كما يتناول مفهوم الوطن بإدانة البطش السياسي ، وانتقاد السياسة اللاإنسانية القائمة على أسر الوطنيين الحقيقيين واعتقالهم عبر الزج بهم بدون رحمة ولا شفقة في زنازن التعذيب وسجون التطهير ليعلموهم لغة الصمت والحكمة والركوع والظفر بمتاع الدنيا كما في قصة" وثيقة" وقصة"السكوت من ذهب".

هذا، ويركز الكاتب على الحرية ويصور قيمتها المثلى التي لا تتحقق إلا بالتحدي والصمود والمقاومة كما في قصة " حرية" (ص:32) التي تشيد بالمقاومة الريفية التي جابهت بكل إصرار الغزو الأجنبي في أراضي الريف المكافحة، ويدافع الكاتب أيضا عن اللغة الأصلية للإنسان الأمازيغي، ويدعو إلى تعلمها كما في قصة" تفوكت"(ص:15) التي تعني الشمس. كما يشيد الكاتب بفلسفة اللعب والطفولة كما في قصة " طفولة " (ص: 20-21).

ومن جهة أخرى، يصور الكاتب أيضا وحشية الإنسان وقسوته في عالمنا الجنوني هذا القائم على الغرابة واللامعقول، والقيم الزائفة، والانتصارات الموهومة، والبطولات الدونكيشوتية الحالمة، واغتصاب الطفولة وسرقة أحلام الصغار( قصة عرائس ، صفحة: 33).

وتجسد قصص مصطفى لغتيري اضمحلال الإنسان واقعيا وأخلاقيا ووجوديا، ذلك الذي يعاني من الوحدة الفظيعة( قصة وحدة ،صفحة 31)، والعزلة القاتلة، والاستغلال البشع (قصة الغريب، صفحة 41)، والمكر الداهم، والفشل الإبداعي (قصة قصة، صفحة 34)، والانهيار الداخلي ( قصة غزو، صفحة 35)، وخيبة الأمل (قصة العرافة، صفحة 48)، والحزن الفارغ ، والفرح المتعفن، والاكتئاب المزمن (قصة اكتئاب، صفحة 37)، والغربة المتشنجة، والقلق الغامر ، والغم اليائس، والسأم الوجودي (قصة الشاعر، صفحة 24) ، والزيف المحقق ، والامتساخ الماكر (قصة تقمص، صفحة 28) ، والخداع الإنساني (قصة خداع، صفحة 16)، والظلم المتفشي(قصة عدالة، صفحة 17)، والفراق العائلي (قصة ذكرى، صفحة 18)، والعقم الصارخ (قصة عقم ،صفحة 44)، والقسوة المتنامية ( قصة مراهنة، صفحة 45)، والإجرام الفاحش ( قصة جريمة ، صفحة 46)، .

وعليه، فقد أصبح الإنسان في زمن اللاعقلانية والفوضى والسرعة الجنونية يتعرض للتعليب الرقمي ، والتشيىء المستلب، والتهجين المدجن ، تفتك به أمراض العصر وتنخره الأوبئة الفتاكة وخاصة القيمية والطبيعية منها كالاستنساخ (قصة الآخر، صفحة 30)، والعري الإباحي ( قصة عري ، صفحة 39)، وإنفلوانزا القيم (قصة إنفلوانزا ، صفحة 22)، وتسونامي التغريب والتطهير (قصة تسونامي، صفحة 25) . كما عبر الكاتب عن الجدب الطبيعي والبشري في قصته" غيمة" (صفحة 58)، وصور لنا سعادة الأسرة الملحاحة في طلب الحاجيات في مقابل معاناة الزوج الذي يعيش الشقاء الداخلي بسبب إيقاع الطلبات المتسارعة على حساب سعادته وراحته النفسية والذهنية كما في قصة " أسرة"(صفحة 56).

وقد ترتب عن هذه الوضعية البشرية المزرية أن قرر الإنسان الهروب من عالم الامتساخ والانبطاح حيال عالم الروح والقيم والتنسك الجواني كما في قصة " قرار" (ص:40)، والبحث عن فرصة أمل باقية كما في قصة " أمل "(ص: 49).

ب/ المميزات المرجعية:

تحمل القصة القصيرة جدا في أبعادها المرجعية ورهاناتها المقصدية الرؤية الإنسانية المغلفة بالنزعة التراجيدية التي تعلن موت الإنسان في زمننا المعاصر ، وإفلاسه كينونيا، وانبطاحه أخلاقيا وسقوطه قيميا بعد أن انساق وراء بريق المادة، ومفاتن الغواية ، وسيقان الإباحة والجسد.

فقد تفاقمت القيم السلبية والظواهر المشينة التي تحط بالكائن البشري في هذا العالم المتردي المنحط الذي يحتاج إلى تطهيره بالقيم الأصيلة ونقاء الضمير وصفاء الروح. لذا، أصبح الإنسان في هذا الكون الشاسع الموبوء ذئبا لأخيه الإنسان على حد تعبير الفيلسوف الإنجليزي هوبز، فانتشرت الفلسفة الميكيافيلية التي تقول جهارا بأن الغايات تبرر الوسيلة، وذاعت الفلسفة البراجماتية ولغة المصالح والمنافع بالمفهوم البذيء للمنفعة والتعامل البشري. وبالتالي، يرثي الكاتب مصطفى لغتيري الكائن الإنساني، وينعى الروح البشرية، ويكتب مرثية انهيار الإنسانية بسقوطها في أوحال الامتساخ والحيوانية والتشييء المادي والخضوع لعالم الرقميات والاستلاب الإنتاجي على حساب القيم والروحانيات والذاتية الجوانية. كما يدين الكاتب عالمنا المأساوي الفاجر الذي قتلت فيه الطفولة العذبة ، والسعادة الروحية، والفضيلة المثلى ، والوطنية الصادقة، والحرية المقاومة ، والإنسانية الحساسة. وينتقد كذلك العالم الرأسمالي المعولم أو العالم" المغولم " المتوحش الذي تحول فيه الإنسان إلى شبح مخيف وكائن مرعب مرهب، العالم الذي امتسخ فيه اللعب الصبياني ، وشذ فيه التزاوج البشري، واحتقر فيه الآخر المماثل، وانهار فيه الحب العائلي، وتشوه فيه الجمال فعوض في الآن نفسه بقبح الأفعال ومكر التاريخ وسوء الأخلاق.

وعلى أي، فمصطفى لغتيري يصدر في مجموعته القصصية عن رؤية ذهنية فلسفية تتغنى بالإنسان الذي صار كائنا تراجيديا ممسوخا ينهشه السأم الوجودي ، وينخره الموت الفتاك ، بعد أن فرط طمعا وجحودا في قيمه الأصيلة التي استبدلها بالقيم الكمية الزائفة في عالم الانحطاط البشري والانبطاح الإنساني وانهيار الكائن البشري.

ج/ المميزات الدلالية:

تتسم القصة القصيرة جدا بمجموعة من الخاصيات والمميزات الدلالية التي تميزها عن القصة القصيرة والرواية وباقي الفنون والأجناس التي تعرفها نظرية الأدب.

فدونكم أيها القراء الأفاضل هذه المميزات الدلالية والخاصيات المعنوية التي سنستحضرها من خلال مجموعة " تسونامي" لمصطفى لغتيري باعتبارها نموذجا تمثيليا ليس إلا، وهي نفس الخاصيات التي تسم باقي المجموعات القصصية لدى باقي كتاب القصة القصيرة جدا. وهذه الخاصيات المميزة هي على النحو التالي:

1- خاصية السخرية : من يتأمل قصص مصطفى لغتيري وقصص غيره من كتاب القصة الكبسولة كعبد الله المتقي، وفاطمة بوزيان، وجمال بوطيب، وعز الدين الماعزي ،وسعيد بوكرامي،ومحمد العتروس،وسعيد منتسب،ومحمد تنفو، وحسن برطال، ورشيد البوشاري، وأنيس الرافعي، وهشام بن شاوي، وأحمد الويزي، ومصطفى الكلتي، ومحمد عز الدين التازي، وكريم راضي، ومحمد زيتون، ومحمد الكلاف، وميلود بنباقي، ومحمد مفتوح؛ ومصطفى بندحمان... فإنه سيصادف ظاهرة السخرية الناتجة عن المفارقة الصارخة، والانزياح المنطقي، وكثرة الباروديا ، وهيمنة الخلل العقلي، وتكسير المواضعات السائدة ، وتخييب أفق انتظار القارئ، وانقلاب موازين القيم ، وانكسار القواعد السائدة المقبولة ذهنيا وواقعيا أمام اللاعقلانية الضاحكة وحقيقة الجنون. يقول مصطفى لغتيري في قصته وثيقة (ص:26):" لأنه يحب الوطن حبا جنونيا، اعتقلته السلطات، واحتفظت به في زنزانة منفردة، خوفا عليه من الضياع.

إنها – اللحظة- تفكر جديا في عرضه في المتحف الوطني".

يعتمد الكاتب في هذه القصة الساخرة على تعيير الواقع المتناقض، والثورة على الوعي الزائف، وإدانة سياسة الاستلاب وتزييف القيم الإنسانية، كما تقوم هذه السخرية على الفكاهة والتنكيت والتهكم والتعريض والتلميح والإيحاء والضحك كالبكاء.

2/ خاصية الإدهـــاش:

تعد خاصية الإدهاش من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا الناتجة عن الإضمار والغموض والحذف والتخييل وترك البياضات الفارغة واصطناع لغة المفارقة والعلامات الملتبسة المحيرة التي تساهم في خلخلة ميثاق التلقي وإرباك القارئ على مستوى التلقي وتقبل النص كما يتضح ذلك في قصة: " السكوت من ذهب" (ص:29) التي التجأت إلى الإيجاز المقتضب واستعمال الحكمة الساخرة والفكاهة الواعية والنادرة الذهنية التي تستوجب من المتلقي استعمال الخيال والعقل وتشغيلهما من أجل تفكيك دوال المنطوق لبناء المفهوم:

" لكي يصبح الرجل ثريا،

قرر أن يصمت إلى الأبد".

ومن ثم، تهدف القصة القصيرة جدا إلى دغدغة المتقبل وجذبه لمشاركة الكاتب في انبناء نصه. لذا، يدهشه المؤلف بالبياضات الكثيرة، والفراغ الصامت ، والتلغيز المحير، والتنكيت الساخر، وقلب المواضعات المألوفة رأسا على عقب.

3/ خاصية الفانطاستيك:

تشغل القصة القصيرة جدا عند مصطفى لغتيري خاصية الفانطاستيك من خلال التأرجح بين الغريب والعجيب ،واستعمال خطاب التحولات الخارقة التي تعبر عن تداخل الوعي واللاوعي، وتنافر الواقع واللاواقع، والمألوف واللامألوف لتشبيك عالم الغرابة والفانتازيا والامتساخ البشري والحيواني والإشهاد على انبطاح الإنسان أخلاقيا، وانحطاط، المجتمع البشري الذي علبته القيم الكمية والمعايير الرقمية والمادية. يقول مصطفى لغتيري في قصته:" تقمص"(ص:28):" أبدا لم تنطل حيلة الرداء الأحمر على الثور...

أمام اندهاش الجميع، قصد المصارع، وأصابه إصابة قاتلة...

كان الثور يتقمص روح خفاش، قادر على تحديد أهدافه، بالتقاط الذبذبات".

تصور هذه القصة وحشية الإنسان وتحوله من كائن آدمي إلى مجرم يسفك دماء المخلوقات الضعيفة بدون شفقة ولا رحمة ليتلذذ بانتصاره الوهمي الزائف.

4/ خاصية التناص:

تعتمد القصة القصيرة جدا من خلال هذه الأضمومة على توظيف التناص والمستنسخات النصية والمقتبسات المعرفية وتشغيل المعرفة الخلفية الداخلية والخارجية من خلال استحضار الأعلام والنصوص اللاواعية والأفكار المخزنة والذاكرة المضمرة والعبارات المسكوكة والصيغ المأثورة والحقول المعرفية عبر قنوات الامتصاص والاستفادة والحوار والتفاعل النصي.

ويعد مصطفى لغتيري من القصاصين الذين يصدرون عن رؤية ذهنية ثقافية يتحكم فيها التناص بشكل كبير من خلال توظيف مجموعة من الإحالات المعرفية التناصية التي تتمظهر في المؤشرات والمستنسخات التالية: أبو العلاء المعري، الكوميديا الإلهية، بورخيس، رسالة الغفران، فان كوخ، دانتي، المعرة، سارتر، سيمون دي بوفوار، زرادشت، نيتشه، بشار بن برد، جورج واشنطن...

د/ المميزات الجمالية:

تتسم مجموعة تسونامي لمصطفى لغتيري بعدة سمات فنية ومكونات جمالية هي التي تحدد شعرية القصة القصيرة جدا وتؤسس أجناسيتها الأدبية . ومن بين هذه المكونات الجوهرية لابد من ذكر العناصر البويطيقية (الإنشائية)التالية:

1. التركيب النحوي:

تنبني القصة القصيرة جدا عند مصطفى لغتيري على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد سواء أكان محمولا فعليا أم اسميا أم ظرفيا أم حاليا... وتقوم الفواصل وعلامات الترقيم الأخرى كالاستفهام ونقط الحذف والنقطة وعلامة التعجب أو التأثر بدور هام في تقطيع الجمل وتكثيفها واختزالها إلى نوى محمولية. وغالبا ماتكون محمولات الجمل فعلية للتدليل على الحركية والتوتر الدرامي وإثراء الإيقاع السردي وخلق لغة الحذف والإضمار، أما المحمولات الاسمية فتأتي للتأكيد والتقرير والوصف وتبيان الحالة. ومن هنا، فالغرض من توظيف الجمل البسيطة بكثرة في القصة القصيرة جدا هو البحث عن إيقاعية متناغمة لجنس القصة القصيرة جدا وتسريع الأحداث بشكل ديناميكي حيوي، والميل إلى الاختزال والحذف والاختصار وتشويق القارئ، والابتعاد عن التطويل والإطناب والإسهاب.

كما يرتكز الكاتب على الأفعال الوظيفية الأساسية مع الابتعاد قدر الإمكان عن الوظائف الثانوية التي لاتساهم إلا في تطويل النص وإطالة أهدابه وأجنحته التخييلية. ويخضع الكاتب أيضا جمله لخاصية الانزياح النحوي و تخريب رتبة الجملة تقديما وتأخيرا كما في قصة " وحدة " (ص:31):

" وحيدا ظل العصفور في القفص.. كئيبا لا يسمع له صوت...فكر الرجل ، فاشترى له عصفورة تؤنسه.. حين حلت الضيفة الجديدة، أصبح العصفور نشيطا، لايتوقف عن الحركة، وامتلأ البيت بوصوصاته المسترسلة..

صباحا تأمل الرجل العصفورين، فرأى منظرا بديعا، أدهشه...

لحظتها فقط، أحس بأنه وحيد بشكل فظيع."

ومن الشواهد النصية التي تبين هيمنة الجمل البسيطة في القصيرة جدا قصة الموت(ص:14) :" على هيئة رجل ، تقدم الموت نحو شاب، يقتعد كرسيا على قارعة الطريق...جلس بجانبه، ثم ما لبث أن سأله:

- هل تخاف الموت؟
- واثقا من نفسه، أجاب الشاب:
- لا، أبدا، إن لم يمت المرء اليوم، قطعا سيموت غدا.

بهدوء أردف الموت:

- أنا الموت... جئت لآخذك.

ارتعب الشاب...انتفض هاربا...لم ينتبه إلى سيارة قادمة بسرعة مجنونة، فدهسته".

و تمتاز قصص مصطفى لغتيري بالإيجاز والإضمار والحذف لإدهاش المتلقي وإرباكه، وخلق لغة الغموض والتخييل وتخييب أفق انتظار المتلقي مع دفعه اضطرارا وقسرا نحو التخييل وافتراض الأجوبة الممكنة ، وتشويق القارئ لملء فراغ النص وبياضاته المسكوتة .

وتعد خاصية الإضمار من أهم مميزات القصة القصيرة جدا، وبها تنماز عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى. ويبدو هذا الإضمار جليا في معظم قصص مصطفى لغتيري كما يدل على ذلك الإكثار من نقط الحذف الثلاث التي ترد في جل النصوص القصصية القصيرة جدا.

ويستعمل الكاتب أيضا التركيب الحجاجي والاستدلال المنطقي في بناء المقدمات والحجج والبراهين الافتراضية من أجل الوصول إلى النتائج، وهذا التركيب الحجاجي هو الذي يحقق للنص تماسكه واتساقه وانسجامه التركيبي والدلالي كما في قصة" أسرة"(ص:56) التي شغل فيها الكاتب المنطق الأرسطي الصوري والاستغراق الاستدلالي الجملي عبر التدرج من الجزء والخاص إلى الكل والعام:

" قال الابن:

- أنا سعيد، لأن أبي يشتري لي كل ما أحتاجه.
- قالت البنت:
- أنا سعيدة لأن أبي يسمح لي بالذهاب أينما شئت. قالت الزوجة:
- أنا سعيدة لأن زوجي أبدا لا يرفض لي طلبا.
- قال الزوج، وقد ظفرت من عينيه دمعة:
- حتما، يجب أن أكون سعيدا لأن كل من حولي سعداء".

ويلاحظ أيضا ظاهرة التتابع وتراكب الجمل وتتابعها في سياق النص من أجل تأزيم العقدة ، وخلق التوتر الدرامي عبر تسريع وتيرة الجمل ، وركوب بعضها البعض ولاسيما في القصص التي تسرد بواسطة الجمل الفعلية المسردة كما في قصة شهد الملكة(ص:27):" من بعيد تراءت له الملكة تتقاطر عسلا، وتجللها- ببهاء- هالة من نور بخطوات حالمة دلف نحوها...دنا منها... مرتبكا مد سبابته...أغمض عينيه وغمس الأصبع في العسل... تذوق قطرة واحدة، فغدا العالم من حوله بطعم، أبدا لم يعد قادرا على تحمله".

نلاحظ في هذه القصة مجموعة من الأفعال التي تخضع للتتابع والتراكب السريع بشكل يؤدي حتما إلى تسريع النسق القصصي وإسقاطه في شرنقة التأزم والتوتر الدرامي الحركي كما يدل على ذلك النسق الفعلي التالي:تراءت، تجللها،دلف، دنا، مد،أغمض، غمس،تذوق، غدا، يعد...فمسافة هذه الأفعال المتراكبة قريبة ومتجاورة ؛ مما يساعدها على خلق لوحة مشهدية درامية أو لقطة فيلمية نابضة بالحركة والسرعة الإيقاعية.

2. التركيب البلاغي:

تتجاوز القصص القصيرة التي يكتبها مصطفى لغتيري الكتابة الحرفية التقريرية المباشرة، ويستعمل بدلا منها لغة التشخيص الاستعاري والمجاز المؤنسن الإحيائي والتشبيه المفسر والانزياح البلاغي وخطاب الترميز من أجل خلق لغة إيحائية شاعرية مؤثرة قائمة على خلخلة المحور الاستبدالي في تقاطعه مع المحور النحوي. ومن ثم، يبحث الكاتب عن الوظيفة الشعرية والمحكي الشاعري لتقريب القصة من الشعر ومن الخطابات القائمة على لغة المشابهة والمجاورة.

ومن الأمثلة النصية على الخطاب البلاغي المنزاح الذي يطفح بالشاعرية المفلقة والأنسنة الاستعارية نصه:" غيمة" (ص:58):" من أعماق المحيط، انطلقت غيمة داكنة، تبحث عن مكان يستحق ماءها... تواطأت الريح معها، فسحبتها نحو اليابسة.

فجأة لمحت الغيمة قطعة أرض يابسة، قد علا الاصفرار ذؤابات نباتاتها... مبتهجة هرولت الغيمة نحوها، عازمة على ربها...

حين أشرقت عليها...جاهدة حاولت سقيها.. لكنها متأسفة اكتشفت أن طول الرحلة أنهكها، فأضحت سحابة عجفاء شاحبة."

هذا، وتتسم قصص مصطفى لغتيري بالخاصية الرمزية التجريدية عبر استخدام لغة العلامات والإشارات السيميائية والدوال الموحية الحبلى بالمدلولات المنطوقة التي تستنبط عبر سياقاتها اللغوية والنصية والذهنية وتستكشف عبر صورها البلاغية القصيرة جدا.

وإليكم نصا قصصيا يطفح بالرمزية التجريدية والانبطاح البشري والامتساخ الحيواني الدال على انهيار القيم الأصيلة وتساقط المثل العليا في العالم البشري المنحط كما في قصة " قرار" (ص: 40):" كان كلبا أنيقا معتزا بذاته... لمح ذات صباح كلبة جميلة، فوقع في حبها..طاردها مدة طويلة، دون أن يقضي منها وطره.

ذات مساء، رأى الكلبة تجامع كلبا بشكل فاضح... اغتم، فقرر، منذ ذلك الحين، أن يصبح ناسكا."

فالحيوانات المذكورة في هذه القصة القصيرة جدا ماهي في الحقيقة سوى أقنعة رمزية تحيل على الكائنات الآدمية الممتسخة ، والذوات البشرية الكلبية التي أصبحت عبر أفعالها المشينة مخلوقات حيوانية جحيمية ملعونة .

3/ التماثل الصوتي والإيقاعي:

يستند مصطفى لغتيري إلى كتابة قصص قائمة على التماثل الصوتي والتوازي الإيقاعي الناتجين عن تكرار الوحدات الصوتية وتجانس الفونيمات المتقاربة من حيث الصفات والمخارج، وتماثل المورفيمات الصرفية والمونيمات المعجمية والتراكيب النحوية والبلاغية. ففي قصة " أسرة" تتكرر الكلمات المشتقة من السعادة كسعيدة وسعيد وسعداء، والكلمات المشتقة من الزواج كزوج وزوجة ، وكلمات البنوة كالابن والبنت، كما تتكرر مجموعة من الأصوات المهموسة كالسين والتاء والأصوات الأنفية المجهورة كاللام والميم والنون. كما يتعدى التماثل الإيقاعي ماهو صوتي ومعجمي إلى ماهو تركيبي حيث تعاد جمل بنفس الصيغة التركيبية كجملة : أنا سعيد أو أنا سعيدة، وجملة: قال الابن، وقالت البنت.

وعلى العموم، يتسم جنس القصة القصيرة جدا بالإيقاع السريع الثري الذي يترتب عن تراكب الجمل وتتابعها وبساطة التراكيب وكثرة الحذف والإضمار وشدة التكثيف والاقتضاب.

4/ النزعة القصصية:

تحترم قصص مصطفى لغتيري مكونات القصة وخصائص الكتابة السردية من أحداث وشخصيات وفضاء ورؤية سردية ونسق زمني وصياغة أسلوبية ولغوية. بيد أن هذه القصصية السردية قد تكتفي بماهو إسنادي أساسي في تحبيك العقدة أو ما يسمى بالعمدة في باب النحو من خلال التركيز على الأحداث والشخصيات وإلغاء ما يدخل في باب الفضلة والتوسيع والتكملة من فضاء ووصف وتصوير للأجواء كما في قصة " السكوت من ذهب " (ص: 29):

" لكي يصبح الرجل ثريا

قرر أن يصمت إلى الأبد".

فهذه القصة تكتفي بالحدث البارز والشخصية الرئيسة، وتستغني عن كل المقومات الفضائية من مكان وزمان ووصف وتجسيد للأجواء والمكملات الحالية والنفسية.

كما ترد لدى الكاتب مجموعة من القصص القصيرة جدا الطافحة بكل المكونات القصصية الأخرى كاستعمال الرؤية السردية، وتوظيف الوصف ، وتصوير المشاهد والفضاءات ، وتبئير الشخصيات، وتكثيف الأزمنة السردية ، وتجسيد المرجع الشخوصي النفسي والموضوعي. ويعني هذا أن القصصية لدى مصطفى لغتيري وغيره قد تكون قصصية مقتضبة موجزة ومكثفة أو تكون قصصية موسعة مسهبة.

5/ خاصية الحجـــم القصير:

تمتاز القصة القصيرة جدا عند مصطفى لغتيري بالحجم القصير، فهي تبتدئ بجملتين على الأقل في قصة" السكوت من ذهب" لتستغرق أكثر من صفحة واحدة في قصة:" طفولة".

وبهذا الحجم المحدود تنماز القصة القصيرة جدا وتتفرد عن باقي الفنون والأجناس الأدبية الأخرى التي تميل إلى التفصيل والتطويل والإسهاب والتمطيط والتوسيع .

ويستحسن أن يلتزم كتاب القصة القصيرة جدا بالحجم القصير الميكروسكوبي، وإلا اعتبرنا بعض النصوص القصصية القصيرة جدا الواردة في الكثير من المجموعات السردية المحسوبة على جنس القصة القصيرة جدا نصوصا مخالفة لهذا الجنس الأدبي الجديد. فأي انتهاك للحجم المحدود يدخل هذه النصوص الطويلة حتما في باب الأقصوصة أو القصة القصيرة أو في الرواية القصيرة أو في باب الرواية إن كانت القصة مسترسلة بشكل كبير جدا.

6/ خاصية الوصف المقتضب:

من المعلوم أن الوصف من أهم العناصر الجوهرية للرواية ، حيث يلتجئ الروائي إلى استخدام إيقاع سردي بطيء لحشو متن روايته بالوصف التصويري القائم على التفصيل والاستقصاء واستخدام صور المماثلة والمجاورة، في حين نلفي القصة القصيرة جدا تتفادى الوصف التفصيلي الذي تستخدمه الرواية الكلاسيكية أو الوصف الانتقائي الذي نجده في الرواية الجديدة . وتكتفي القصة القصيرة جدا بالنزر القليل من الوصف عن طريق استعمال بعض النعوت والأوصاف والأحوال وبعض الصور البلاغية كما نرى ذلك في قصة" قوس قزح"(ص:54):" ارتدت الصبية فستانا أصفر فاقع لونه، يتخلله أحمر زاه...رنت بعينيها النجلاوين نحو المدى البعيد...ارتعش الكون...خفق قلبه فرحا، ثم مالبث أن ارتسم في الأفق قوس قزح بألوانه الزاهية".

ومن ثم، فالكاتب يستعمل الأحداث بكثرة ، ويقلل من الأوصاف التي تتخذ صفة الاقتضاب والاختزال والتكثيف والإشارات العابرة الملمحة، فالكلام ما قل ودل.

7/ الانفتاح الأجناسي:

يعتبر الانفتاح الأجناسي من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا ، حيث نجد هذه الكبسولة القصيرة تستوعب مجموعة من الأجناس الأدبية والفنون المجاورة كتشغيل اللقطة السينيمائية ولمحة الخاطرة وسخرية النادرة ولغز التنكيت والسرد القصصي والروائي والصورة التشكيلية والتوتر الدرامي.

بيد أن أهم انفتاح للقصة القصيرة جدا هو استيعابها لفن الشعر وتوظيف الشاعرية السردية أو ما يسمى عند إيف تادييه Yve Tadié بالمحكي الشاعري. ويعني هذا أن الكبسولة القصصية تنساق وراء الشاعرية الإبداعية بواسطة استخدام القالب الشعري واللغة الموحية والصور الشعرية الانزياحية كما في قصته " الغريب " ( ص: 41) التي تشبه قصيدة شعرية نثرية:

" في بلادنا شجرة وارفة الظلال..
جاء الغريب اشتراها، وطردنا بعيدا،
لنصطلي تحت نيران الشمس الحارقة..
بعد زمنن رحل الغريب..
مبنهجين عدنا إلى الشجرة، فلفحتنا ظلالها الحارقة"

نلاحظ في هذه القصة القصيرة جدا تعدد الأسطر القصصية ذات الطبيعة الشعرية واستعمال التوازي ، وتشغيل المحكي الشاعري من خلال المزاوجة بين صور المجاورة وصور المشابهة، وتوظيف الرموز المكثفة. ومن ثم، فالقصيدة تشبه إلى حد كبير قصائد الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي تستدعي فيها الشاعرة خطاب المقاومة والتحدي والصمود والكفاح بكتابة شعرية نثرية قصصية متفاوتة الأسطر والجمل الشعرية.

كما يستند هذا الجنس الأدبي الجديد إلى توظيف مجموعة من السجلات اللغوية والخطابات كالخطاب الحلمي (قصة أحلام)، والخطاب الأسطوري (قصة العرافة)، والخطاب التناصي( قصة تناص)، والخطاب الديني، والخطاب العرفاني الصوفي، والخطاب الفلسفي، والخطاب الأدبي، والخطاب الفني، والخطاب المرجعي الذاتي والموضوعي، وخطاب السخرية البوليفونية والتهجين اللغوي.

كما تتأرجح اللغة القصصية بين الفصحى والعامية المعربة والانفتاح على السجلات اللغوية الأجنبية (في قصص الكتاب الآخرين )، والاستعانة بالسجلات اللهحية المحلية (توظيف الأمازيغية مثلا في قصة" تفوكت/الشمس").

خاتمـــة:

ونستشف ، مما سبق، أن مجموعة " تسونامي" لمصطفى لغتيري قد تمثلت جل مقومات القصة القصيرة جدا تحبيكا وحجما، كما استجمعت كل مكونات الفعل السردي وخصائص التشويق والإدهاش الفني والجمالي . ومن هنا، تحمل هذه الكبسولات القصصية الواردة في أضمومة " تسونامي" للكاتب المغربي مصطفى لغتيري في طياتها رؤية ذهنية فلسفية إنسانية ذات طرح وجودي تراجيدي عبر طرح أسئلة إشكالية كبيرة على الرغم من الحجم القصير والنفس الجملي البسيط.

زد على ذلك ، أن القصة القصيرة جدا على ضوء هذه المجموعة المتميزة والرائعة في قصصيتها ومقاصدها الرمزية والمرجعية تتسم بمجموعة من الخاصيات التي تفردها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى كالخاصيات الدلالية التي تتمثل في الفانطاستيك، والسخرية، والتناص، والإدهاش ، والخاصيات الجمالية التي تتحقق وتتجسد فنيا في الإضمار والحذف، والتراكب الجملي، والإيقاع السريع، والتجريد الرمزي، والغموض الموحي، وتشغيل الحجم القصير المحدود، وتوظيف النزعة القصصية المعبرة، والميل إلى الوصف المقتضب، وتنويع علامات الترقيم ، وإثارة المتلقي.
 
د/ مسلك ميمـــــون
مكونات الإبداع في القصّة القصيرة جداً ''


القصة القصيرة جداً very short story بدعة فنية في إطار فن القصة. و أقول بدعة ، لأنّها شيء مستحدث . إذ لم تظهر في عالمنا العربي كفن و كتابة إلا في تسعينات القرن الماضي . و لكن استطاعت بسرعة أن تجد لها مكانا تحت الشمس، و وسط الزحام . بل استطاعت أن تملك مريدين و مريدات ، و معجبين ومعجبات. و قد تكون الفن الوحيد الذي لم يجد معارضة من المحافظين ، إلا ما لا يكاد يذكر .

ربّما لأنها ولدت مكتملة ، و إن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغاً للوجود في العصرالحاضر و متطلباته : من سرعة و ضيق للوقت، و كثرة الهموم اليومية التي تصرف الإنسان عن مطالعة النصوص الطويلة .... و يحاول البعض الآخر أن يبحث عن جذورها في التراث العربي سواء منه المعاصر أوالقديم . بغية إثبات شرعيتها في الوجود . كاعتبارها امتداداً طبيعياً لبعض كتابات رواد السّرد العرب و بخاصة كتاب (المستطرف في كل فن مسظرف) للأبشهي ، و كتابات نعيمة ، و جبران خليل

و لكن ـ عموماً ـ القصة القصيرة جداً وجدتْ لها مكاناً في الكتابة السّردية . وأصبحت تستقطب رواداً في الكتابة القصصية . و مهتمين دارسين في مجال السّرديات و التّحليل و النّقد رغم قلتهم ، في العالم العربي .

و تبعاً لذلك ، ينبغي أن نتعرف أولا على هذا النوع من الفن السّردي ، من خلال خصائصه . و نتساءل عن مبدعيه و مميزاتهم .
فالقصة القصيرة جداً عمل إبداعيّ فنيّ . يعتمد دقّة اللّغة ، و حسن التّعبير الموجز ، و اختيار الّلّفظة الدّالة ، التي تتّسم بالـدّور الوظيفيّ fonctionnel و التّركيز الشّديد في المعنى . و التّكثيف اللّغوي الذي يحيل و لا يُخبر . و لا يقبل الشّطط ، و لا الإسهاب ، و لا الاستطراد، و لا التّرادف ، و لا الجمل الاعتراضية ، و لا الجمل التّفسيرية .... و يستهدف المضمون الذي يقبل التّأويل ، و لا يستقر على دلالة واحدة . بمعنى يسمح بتعدّد القراءات ...و وجهات النظر المختلفة ...

إذاكانت القصة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرس خبير باللّغة . قاص بارع في البلاغة : متقن للّغـة المجازية langage figuré متنبه لكمياء الألفاظ ، و فلسفة المعنى ، و عمق الدّلالة . قاص لا تتحكم فيه حلاوة الألفاظ ؛ فيقتنصها لحلاوتها ، بل لما يمكن أن تخدم به السّياق المقتضب . قاصّ لا يغتر بالقصر المجمل لقصره . أو الإسهاب المطول لإسهابه ، و لكن يهتمّ بالمعنى على أن يقدَّم بنسق لغوي فنيّ في غاية من الاقتصاد . ليمكن القارئ الشّغوف بفن القصّ القصير، أن يقرأ داخل اللّغة intra - linguistique لأنّ القراءة السّطحية، لا تجدي نفعاً إزاء هذا النّوع من القصّ .إذ لا بد من قراءة ما بين السّطور القليلة . و خلف الكلمات المعدودة . فهناك لغة التّضمين homonymique

و إذا كانت القصّة القصيرة جداً و صاحبها كما رأينا ، يبقى من الضّروري أن نقول صراحة ، إنّ هذا الفن ليس من السّهولــة في شيء. لكن كم هو سهل على من يستسهله ، فيكتب جملا تدخل في إطار ما يعرف بالكتابة البيضاء écriture blanche التي لا تدل إلا على اللاشيئية nullité ويعتقد أنّه دخل صرح القصة القصيرة من بابها الواسع . إلا أنّه ينبغي أن نقول :إنّ رواد هذا الفن في عالمنا العربي قلة قليلة . أمّا الكثرة الكثيرة ، فهي من تكتب خارج دائرة هذا الفن . و تعتقد نفسها ـ في غياب النّقد و المتابعة ـ أنها داخل الدّائرة .

أعتقد ـ جازماً ـ أنّ الذي لم يزاول كتابة القصّة القصيرة والقصّة ، و الذي لم تتوفر فيه بعض من الصّفات الآنفة الذّكر . فهو كاتب يبحث له عن اسم في فن لا يعرفه. و في لغة لا يحسن سبكها ، و صياغتها، لأنّها لغة السنتمتر وأقل .و لغة التكثيف الفني . و هذا يدعونا لنوضح ذلك قليلا :


1 ــ التّكثيف: عملية ضرورية في مجال القصّة القصيرة جداً . و لا أكتم أنّني ؛ حين أقرأ نصاً : منفرجاً ،منفتحاً،بلغة إنشائية بسيطة وعادية ...ما يعرف بالإنجليزية natural langage أو حين أجد الفائض اللّغوي الذي لا يخدم النّص في شيء ما يعرف l'inguistic redundancy أتضايق ، وأشعر أنّني أقرأ كلاماً عادياً ،لا صلة له بالفن ، فبالأحرى القصّة القصيرة جداً. و هذا لا يعني أنّ التكثيف وحده يضمن نجاح القصّة ، بل هناك عناصر أخرى لا بدّ منها . و إن كان ليس من الضّروري أن تكون كلّها موجودة في النّص . بل ظروف الكتابة ، و معطيات النّص، و الحالة النّفسية للمبدع .... كلّ ذلك يساهم في إظهار عناصر، و احتجاب أخرى... .

2 ــ الرّمـــز : الرّمز أداة و وسيلة و ليس غاية . و هو يوظف بعناية في كلّ عمل فني : في الشّعر، في القصة ، في الرواية، في الرسم التشكيلي ، في النّحث ،في المعمار، في الرّقص .... أستطيع أن أعمّم و أقول: الرّمز يسكن الحياة كلّ الحياة .
و الرّمز كوسيلة حين يوظف فنياً ، يغني النّص ، و يحمله على الاختزال . و يلعب دوراً جليلا في منحه بعداً ، ما كان ليتأتى بلغة واصفة مباشرة ... و لكن له ضريبته الباهظة ،إذ يجعل النّص للخاصّة بل أحياناً لخاصّة الخاصّة ، فماذا سيفهم القارئ العادي البسيط، أو المحدود الثقافة إذا وجد في قصيدة أوقصة ... رموزاً كالتالي : تموز tammuz أدونيسAdonis عشتار Ishtar الفنيق phoenix سيزيف Sisyphus إيزريس Isis أوزريس Osiris....و القائمة طويلة من الرموز الإغريقية و الفرعونية و الإنسانيــــــــة عموما ...لاشك أنّ هذه لا تقول شيئا حتى ـ ربّما لبعض المثقفين ـ و من تمَّ كانت الرمزية كتابة نخبوية ، أو تجعل النّص نخبوياً .
و لتبسيط الرمز و جعله في المتناول . ترك بعض الأدباء الرموز العالمية ، و لجؤوا إلى ابتداع رموز لغوية اجتماعية معروفة أو قد تعرف من سياق النّص ، سواء كان شعـــــراً أو قصّة .و لكن الرّمز الذي يوظف توظيفاً فنياً : يرفع قيمة النّص إبداعياً ، و يثريه دلالياً ، و يحمل القارئ بعيداً ، إلى فضاءات لا يمكن أن تحددها الكلمات العادية ، أو التراكيب الواصفة البسيطة ...

3 ـ الحجــــــــم : أمّا من حيث الحجم ، فهناك خلاف كبير.
فحين أقرأ ما كتبته نتالي ساروت من قصص قصيرة جداً في كتاب بعنوان (انفعالات)،أجد القصة عندها طويلة نسبياً دون أن أقول : و رقة . و لكن حين أقرأ للقاص و الروائي الكبير ارنست همنغواي ،أجده قد كتب يوما ً قصة قصيرة جداً في خمس كلمات و هي : (للبيع، حذاء أطفال، غير مستهلك )، وأن بعض المواقع الأدبية أعلنت عن مسابقات للقصّة القصيرة جداً بشرط أن تكون كلماتها محصورة بين كلمتين إلى ثلاثمائة كلمة . بل و أجد رأياً آخر يحصر القصّة القصيرة جداً في 60 كلمة و ينصح الكاتبَ لكي يحافظ على المجموع (60) كلمة أو أقل ينبغي أن يضع (60) سطراً مرقماً على أساس أن يتضمن ـ أثناء الكتابة ـ كلّ سطر كلمة . و في هذا خلاف .....
فالقصة القصيرة جداً إن جاءت في نصف صفحة.أو في فقرتين من ثلاث مائة كلمة، أوأقل كمائة كلمة ، أو ستين و بدون شطط و لا زيادة غير مرغوب فيها؛ فهذا جميل . و عموماً التّكثيف و الإيجاز و اللّغة الشّعرية ... كلّ ذلك لا يسمح بالاستطراد و الشّطط والإطناب . و من تمّ أجد مبدع القصّة القصيرة جداً؛ من المبدعين البلغاء . فهو إن لم يكن بليغاً و متمكناً من ضروب البلاغة، لا يمكنه أن يأتي بالحدث في إيجاز بليغ فنيّ ، و إن حاول ذلك مــراراً.

4 ـ الراوي العليم أوالرؤية من خلف . فهي من أخطر الرؤى الممكنة . كيف ذلك ؟ فالراوي الذي يعرف كلّ شيء؛ يبَسط النّسيج الفنيّ ، و يحلّ عقد البناء القصصيّ، و يكشف كلّ الأوراق ... ما يجعل النّص؛ نصاً عادياً خال من المتعة و التّشويق ...ما لم يتحكم الكاتب في السّارد بذكاء و تبصّر، فينطقه حيث ينبغي له النّطق . و يسكته حيث ينبغي السّكوت ، ويجعله يتجاهل و يتغاضى ما ينبغي له فعل ذلك ...و لكن مع الأسف هذا لا يحدث دائماً . فسرعان ما ينساق الكاتب نفسه ،خلف سارده المفترض، فيرخي الحبل على الغارب دون شعور. فتكون النتيجة نصاً مباشراَ و كأنّه تقرير مفتش شرطة ، أو ضابطة قضائية ، أو كاتب ضبط في محكمة ...

5 ـ القفلــــة Résolution: القفلة هي جملة الختم شكلا ، ولكنها مناط الّسّرد عملا، فمنها ينطلق التّأويل ، و إليها يستند الـتّعليل ، و عليها يندرج التّحليل ...
فهي ذات أهمية قصوى. حتّى أنّ البعض لا يرى قصّة قصيرة جداً بدون قفلة . و إن كان لي رأي مخالف . فالقفلة ـ على ما هي عليه من أهمية ـ فقد يحدث ألا يأتي بها القاصّ شريطة أن تكون القصـة على درجة عالية من التّكثيف ، أو الرّمز ، أوالحذف والإضمار .. فنسقية النّص، و سياقهénonciation وتصويره البلاغي ....كلّ ذلك يجعل القفلــة استثنائية ، لأنّ ما سبقها ـ إن وجد ـ سيغطى على دلالتها و تأثيــرها .

و من خصائصها الملازمـــة التّالي :

1 ـ قفلة مفاجئة . غير متوقعة من قبل المتلقي . و لكن لها صلة بالموضوع .
2 ـ تحدث توثراً و انفعالا ، لنسقها الدّلالي و الّصدامي .
3 ـ تبعث على التّأمل و التّساؤل .
4 ـ تفتح آفاق التّأويل و التّحرّر من تخوم النّص .
5 ـ تأتي عفوية مع سياق الكتابة .
6 ـ لا تُصنّع ،و لا تعـدّ ، سواء من قبل أو من بعـد ، ففي ذلك تكلف .
7 ـ تضفي جمالية دلالية على النّص ، لما تكتنزه من معنى.
8 ـ تأتي على نسق بلاغي forme rhétorique يضفي مسحة فنية على النص .
9 ـتتسم بطابعها الوظيفي fonctionnel في النّص.
10 ـ تتسم بالميزة الجوهرانية essencialiste في النّص.

أمام هذه الخصائص كلّها ، متجمّعة أو في معظمها ، يتبن مقدار الأهمية القصوى التي تحتلّها القفلـة . بل كثير من القصص القصيرة جداً تفقد دلالتها و متعتها و قيمتهـا فقط ، لأنّ القفلة اصطناعية artificiel خالية من العفوية الفنّية .

6 ــ التيمة أو الموضوع : القصّة القصيرة جداً تتسع لكلّ الأفكار الممكنة . لكن ما ينعكس على مرآة النقد أن بعض كتاب القصة القصيرة قد يكررون أنفسهم ـ لا شعوريا ـ و لذلك أسباب ذاتية و نفسية .
فأمّا الذّاتية: فتعود للقاص نفسه . فقد يكتب مجموعة من القصص في فترة زمنية- متقاربة . و ذلك استجابة لداعي الإبداع . و تدفق الإلهام ، أو لدافع تجاري يتعلق بالنّشر ... فلا يمكن للقاص غير المتمرس ، إحداث تميز كبير بين نسيج العمل الأول وما يليه . بل الأدهى إن أعجب بعمله الأول ، أو كان ممن يسحرهم الثناء و كلمات المجاملة الكاذبة . .. فسيتخذ من عمله نموذجاً ينسج على منواله . و مع توالي الأعمال و قلة النقد و التّوجيه . يتعمّق الخطأ و يتجذّر ،. فيصبح الإبداع في تعدد النّمط الواحد ، لا في ابتكار الجديد .. وهذا يوجد في السينما مثلا . إذ يحدث لبعض المخرجين أن تلاقي أفلامهم استحساناً فيتبعون نفس النّهج في الإخراج . إلى أن ينتشلهم النقد و التقويم من دائرة النّمطية والتّكرار ....

أمّا ما هو نفسيّ : فهو الأصعب . لأنّ القاص يجد لذّة لا تعادلها لذّة في اجترار تيماتthèmes تسكنه و تسيطر على إحساسه وقدرة تمييزه فلا يكتب إلاوفق السمة المميزة trait distinctif في لا شعوره ، فيمنعه ذلك من التفكير في التحولات transformations الممكنة .فيكون في ذلك كجمل الطاحونه المعصوب العينين يدور و يدير الطاحونة . و لربّما يعتقد أنّه قطع مسافة طويلة ، حتى إذا أميط الغطاء عن عينيه ، و جد نفسه مشدوداً إلى عمود الطاحونة و لم يبرحه قطعاً ... و هذا ما توضحه بجلاء الأسلوبية التعبيرية stylistique de l'expression
و للتّخلص من النّمطية و التّكرار . يصبح من الضّروري على القاصّ الإكثار من مطالعة القصص،في تنوع ...مع الاهتمام بالتنظير و النّقد القصصيّ . فهناك من لا يقرأ إلا إنتاجه فقط . و هذا مؤسف جداً !! كما يجب عدم الشّعور ـ مجرد الشّعور ـ بالوصول و النّضج الفنيّ .فذاك مدعاة للتقوقع و الانكفاء حول الذّات . و على العكس من ذلك ينبغي للقاص الحلم دائماً بالقصّة التي لم يكتبها بعد. و أن يكتب القصة فلا يعقبها بأخرى ، إلا بعد فترة يخصصها للمطالعة فحسب . و لا يغتر بالثناء المجاني الخادع . الذي لا يستند على برهان أو دليل. بل عليه أن يبتهج لأيّ عملية نقدية تقويمية ، تكشف بعض عيوب نصّه . و ليكن ناقد أعماله . فيكفي أن يترك العمل فترة ثمّ يعود إليه، متفحصاً متمعناً . فإنّه ولاشك سيجد ما يرضيه و ما لا يرضيه . و عموماً قد يكرر القاص نفسه . سواء في موضوعاته ، أو طرائق الكتابة ، و نمطية الأسلوب . و لن يخرج عن هذا المسار . إلا من كان يؤمن بالتجديد أسلوباً و نهجاً .

بين أيدينا الآن مجموعة من إنتاجات مختلفة في القصة القصيرة جداً .سواء التي صدرت في مجموعات ، أو التي نثرت في مواقع إلكترونية ، و منتديات ثقافية و أدبية ... كلّها تشهد أن هذا الجنس الأدبي الجميل ولد مكتملا ، نتيجة تجربة القصة القصيرة ، و القصة عموما .
كما هناك ما أصبح يعرف بالومضة. و الومضة أصغر وحدة قصصية سردية، قد لا تتعدى السطرين أو ثلاثة، تتميز عن غيرها ، أنّ الحدث يأتي كاملا لا يقبل تطوراً. و تعتمد الدّهشة ، و المفاجأة ، و الدعوة إلى التّأمل فقط .
و في هذه المضمومة الكبيرة ، و الباقة الممتعة من الق ق ج... يبقى الاختلاف في الرؤية ، و الكتابة ، و الأسلوب ،و الديباجة ..واردا.... و لكنها تعطي صورة بانورامية عن هذه الكتابة الفنية الرائعة ، في عالمنا العربي . و إن كانت كلها في حاجة إلى متابعة نقدية منهجية ...تحدد خصائصها ، و تبرز محاسنها ، و تقف على نقائصها ...
======

د مسلك ميمون