نشأة القصة القصيرة جدا :
ظهرت
أل ( ق.ق جدا ) في أمريكا اللاتينية مع بدايات القرن العشرين لتنتقل بعد
ذلك إلى أوربا الغربية ثم رهصت في العقود الأخيرة من القرن العشرين في بلاد
الرافدين والشام وخاصة سورية وفلسطين وظهرت في المغرب وتونس بشكل متميز وناضج في بداية الألفية الثالثة ولان للمغرب خصوصية في غلبة المشهد القصصي على الشعري فأننا
نستطيع تتبع مراحل تطور هذا الجنس الأدبي في المغرب كأنموذج - على الرغم
من تأخر ظهوره في المغرب نسبة للعراق والشام - لبيان أهمية هذا الجنس
الأدبي وأحقيته بالتعايش السلمي مع الأجناس الأدبية الأخرى والكف عن
محاربته .
حظيت القصة القصيرة جدا في المغرب باهتمام كتاب القصة أمثال محمد إبراهيم
بوعلو ومحمد زفزاف واحمد زيادي وأحمد بوزفور وزهرة زيراوي وحسن برطال
ومصطفى لغتيري ومحمد تنفو وعبد العالي بركات وسعيد بو كرامي وجمال بو طيب .
فقد كتب هؤلاء القصة القصيرة جدا منذ 1983 ، وقد تميز المغرب بوجود مجموعة
من الكتاب قد تخصص في كتابة هذا الجنس وخصصوا مجموعات تحت لواءه ثم ما
لبثوا أن قاموا بأعمال تجريبية كاستخدام تقنيات جمالية وفنية أحدثت اهتزازا
في كلاسيكية القصة القصيرة جدا كالانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى
والتلاعب بالنسق السردي وإعمال الاستعارة والتشخيص والترميز ، فتطور هذا
الجنس في المغرب ليس بالغريب فالكتاب المغاربة تواقون للتجريب استجابة
لعوامل موضوعية أو تاريخية أو سياسية فإدريس الناقوري يقول في حديث عن
التجريب في الأقصوصة المغربية
(
ان العامل الحاسم في هذا التحول ، إنما يتمثل في طبيعة الواقع الموضوعي ،
التاريخي والسياسي ، الذي سجل عدة تناقضات تبلورت في صراعات كثيرة ) 4 ومن
أهم المجاميع التي ظهرت حاملة هوية هذا الجنس الأدبي : مجموعة محمد
إبراهيم بوعلو تحت عنوان ( خمسون أقصوصة في 50 دقيقة ) ومجموعة جمال بو طيب
تحت عنوان ( زخة ... ويبتدئ الشتاء ) ومجموعة حسن برطال تحت عنوان ( أبراج
) ومجموعة مصطفى لغتيري تحت عنوان ( مظلة في قبر ) فضلا عن القصص المتميزة
كقصة جمال بو طيب ( ياسين والوادي ) وقصته
( تلفزيون) وقصة مصطفى لغتيري ( مالك الحزين) وقصته ( المومياء)
مسميات الجنس الأدبي:-
مر
هذا الجنس الأدبي بمسميات عديدة ففي اليابان تدعى ( قصص بحجم راحة اليد )
وفي الصين ( قصص أوقات التدخين ) , وفي أوربا اللاتينية سمية ( قصص ما بعد
الحداثة ) وفي أمريكا ( قصص الومضات ) وهناك تسميات عديدة مثل ( قصة الأربع
دقائق ) و ( العشرون دقيقة ) و ( القصص السريعة ) و ( القصص الصغيرة جدا )
و ( المجهرية ) و ( قصص برقية) و(الصعقة ) و ( شرارات ) و ( بورتريهات ) و
( مشاهد قصصية ) و ( القصة القصيرة الشاعرية ) و ( قصص قصيرة جدا )
سمات القصة القصيرة جدا:-
لنجاح
أي جنس أدبي جديد لا بد من حمله لتوصيفات محددة إلى حد ما تجعل له مساحته
الخاصة , لذلك لابد من تعريف هذا الجنس الأدبي وفق تلك التوصيفات .
القصة
القصيرة جدا :- جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة
السردية الموجزة والمقصدية الرمزية والتلميح والاقتضاب والتجريب والجملة
القصيرة الموسومة بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث .
انطلاقا
من هذا التعريف نلاحظ إن القصة القصيرة جدا فن اشد صعوبة من القصة القصيرة
رغم ان فن القصة القصيرة ( لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين
على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على سطح الذاكرة )5 فكيف بالقصة
القصيرة جدا , وإذا تجاوزنا بعض التوصيفات السابقة في تعريف هذا الجنس
الأدبي فحتما اننا لا نستطيع تجاوز معيارين مهمين هما :-
1- المعيار الكمي 2- معيار الكيفية والمقصدية .
فالمعيار الكمي هو الذي يحدد قصر حجم القصة أما معيار الكيفية والمقصدية
فبهما تقوم المقومات السردية كالأحداث والشخصيات والبنية الزمانية - وان
كانت توظف بشكل مكثف - ولا بد من الإشارة إلى أن المعيار الكمي يتحقق من
التكثيف واختيار الجمل المناسبة والابتعاد عن الإسهاب واللجوء إلى الإضمار
والحذف , وتلعب اللغة دورا مهما وأساسيا في القصة القصيرة جدا لضرورة
احتواء هذا الجنس الأدبي على اللغة الشعرية فأدغار الان بو يقول
(
يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب )6 ويوسف إدريس يقول في حديث
له عن القصة القصيرة ( إن الهدف الذي أسعى إليه هو أن أكثف في خمس وأربعين
كلمة ,- أي في جملة واحدة تقريبا - الكمية القصوى الممكنة من الإحساس ,
باستخدام اقل عدد ممكن من الكلمات )7 فالتكثيف هاجس كل مبدع يريد الارتقاء
بنصه لمستوى العالمية ويمكننا استعارة مقولة الناقد ( اج.ئي.يتس ) في
كتابه ( القصة القصيرة الحديثة ) حين وصف هيمنجواي بـ
( الرجل ذي الفأس الذي يقتلع غابة كاملة من الإطناب )8.
شعرية القصة القصيرة جدا :
على
الرغم من خصوصية هذا الجنس الأدبي من حيث قلة الأحداث التي يحتويها إلا
انه ما يزال جنسا أدبيا ينتمي للسرد لأننا ننظر للنص على أساس ( مستوى
تنسيق الإشارات السردية . لا على مستوى الأحداث )9 ولذلك فان شعرية النص
السردي لابد أن تتحقق في القصة القصيرة جدا ، فالعلاقة بين الشعرية
والسردية علاقة العام بالخاص ، فالشعرية تهتم بالأشكال الأدبية كافة
والسردية : ما هي إلا شعرية مقيدة) 10 والعنصر المشترك بين الشعر والفنون
النثرية هو ان كلا منهما يشتغل باللغة كمادة أولية ( لكنهما يفترقان في
كيفية توظيفها )11 فاللغة عنصر مهم لبث الروح في القصة وجعلها كائن نابض في
الحياة حتى تبتعد عن الرتابة , فكاتب القصة الجيد يرتكز ويؤكد على أهمية
اللغة فهذا موسى كريدي في عام 1965 يؤكد على اللغة فيقول ( ومشكلة قصاصينا
أيضا، إنهم لم يفهموا بعد عبقرية اللغة وطواعيتها ، لم يدركوا إدراكا
واعيا قدرتها على الأداء والتعبير ) 12 فالكاتب حينما يقوم بالتمرد
والتجاوز على اللغة التقريرية واليومية فانه يضعنا ( قسرا في حالة من الوعي
والانتباه ) 13 فالقصة المشحونة بلغة عالية قادرة على ( التصوير بدءا من
ابسط أنواع المجاز ) 14 لذلك نلاحظ أن اغلب القصص القصيرة جدا والتي حققت
حضورا كبيرا مشحونة بالشعرية ، والغريب إن من يهاجم هذا الجنس الأدبي يضرب
معوله في حائط شعريتها العالي محاولا إخراجها من بيت السرد وإبقائها على
باب الشعر تنتظر إذن الدخول ، ويمكنني التصور إن النص القصصي سواء كان (
قصة قصيرة أو أقصوصة أو قصة قصيرة جدا ) لابد أن يمتلك لغة شعرية عالية،
واذكر بما أطلقه الناقد شجاع مسلم العاني على الشعرية في القصة القصيرة
الجديدة حين قال ( إن هذا التيار يقترب من الاتجاهات الجديدة في القصص
العالمي المعاصر ) 15 ومن يقرا القصص القصيرة جدا قراءة متأنية ومنصفة
يدرك أن الشعرية خصيصة ذاتية كامنة في هذا الجنس الأدبي ، فالبنية الداخلية
للنصوص الجيدة من هذا الجنس تؤهله للسكن في بيت عائلته ( السرد) وهو لا
يضمن الشعر كنص خطابي مقحم وإنما يميل لإنتاج نص سردي بتراكيب ذات معان
عالية لتصبح اللغة الشعرية جزءا من النسيج الكتابي وركنا مهما من أركان
بناء القصة القصيرة جدا وبذلك يحقق هذا الجنس خطابا قصصيا تفاعليا متطورا
عما كان عليه خطاب القصة القصيرة مبشرا باجناسية تتناغم مع ما تدعو له
دراسات ما بعد الحداثة فضلا عن تناغمه مع توصيفه الكمي ، والمتتبع الجيد
لهذا الجنس يكتشف انه تطور طبيعي للقصة القصيرة والأقصوصة فلو عدنا إلى
الستينيات لوجدنا القصة القصيرة عرفت هذا الاتجاه الشعري ، فالدراما والشعر
راحا يتناغمان في خلق تجربة جديدة وبذلك انعطفت القصة القصيرة نحو التجريب
والحداثة حين اشتغلت على الثيمة الشعرية تضمينا كما فعل القاص احمد خلف في
قصته ( نزهة في شوارع مهجورة) في مجموعته التي تحمل ذات الاسم فضمن قصيدة
الشاعر محمد الماغوط على لسان بطل قصته ، ومن القصص الستينية التي اشتغلت
بلغة شعرية قصة ( الصوت العقيم ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي في مجموعته (
السيف والسفينة) ، فالقصة القصيرة في تجربتها أدخلت اللغة الشعرية إلى النص
في حين إن أل( ق.ق.جدا) اعتمدت النسيج الشعري في تكوينها وتبقى الكلمة
الفصل لهذا الجنس الأدبي فيما سيحققه من حضور في الوسط الأدبي .

د/ مسلك ميمـــــون
مكونات الإبداع في القصّة القصيرة جداً ''
القصة القصيرة جداً very short story بدعة فنية في إطار فن القصة. و أقول
بدعة ، لأنّها شيء مستحدث . إذ لم تظهر في عالمنا العربي كفن و كتابة إلا
في تسعينات القرن الماضي . و لكن استطاعت بسرعة أن تجد لها مكانا تحت
الشمس، و وسط الزحام . بل استطاعت أن تملك مريدين و مريدات ، و معجبين
ومعجبات. و قد تكون الفن الوحيد الذي لم يجد معارضة من المحافظين ، إلا ما
لا يكاد يذكر .
ربّما لأنها ولدت مكتملة ، و إن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغاً للوجود
في العصرالحاضر و متطلباته : من سرعة و ضيق للوقت، و كثرة الهموم اليومية
التي تصرف الإنسان عن مطالعة النصوص الطويلة .... و يحاول البعض الآخر أن
يبحث عن جذورها في التراث العربي سواء منه المعاصر أوالقديم . بغية إثبات
شرعيتها في الوجود . كاعتبارها امتداداً طبيعياً لبعض كتابات رواد السّرد
العرب و بخاصة كتاب (المستطرف في كل فن مسظرف)
للأبشهي ، و كتابات نعيمة ، و جبران خليل
و لكن ـ عموماً ـ القصة القصيرة جداً وجدتْ لها مكاناً في الكتابة
السّردية . وأصبحت تستقطب رواداً في الكتابة القصصية . و مهتمين دارسين في
مجال السّرديات و التّحليل و النّقد رغم قلتهم ، في العالم العربي .
و تبعاً لذلك ، ينبغي أن نتعرف أولا على هذا النوع من الفن السّردي ، من خلال خصائصه . و نتساءل عن مبدعيه و مميزاتهم .
فالقصة القصيرة جداً عمل إبداعيّ فنيّ . يعتمد دقّة اللّغة ، و حسن
التّعبير الموجز ، و اختيار الّلّفظة الدّالة ، التي تتّسم بالـدّور
الوظيفيّ fonctionnel و التّركيز الشّديد في المعنى
. و التّكثيف اللّغوي الذي يحيل و لا يُخبر . و لا يقبل الشّطط ، و لا
الإسهاب ، و لا الاستطراد، و لا التّرادف ، و لا الجمل الاعتراضية ، و لا
الجمل التّفسيرية .... و يستهدف المضمون الذي يقبل التّأويل ، و لا يستقر
على دلالة واحدة . بمعنى يسمح بتعدّد القراءات ...و وجهات النظر المختلفة
...
إذاكانت القصة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرس خبير باللّغة . قاص بارع في البلاغة : متقن للّغـة المجازية langage figuré
متنبه لكمياء الألفاظ ، و فلسفة المعنى ، و عمق الدّلالة . قاص لا تتحكم
فيه حلاوة الألفاظ ؛ فيقتنصها لحلاوتها ، بل لما يمكن أن تخدم به السّياق
المقتضب . قاصّ لا يغتر بالقصر المجمل لقصره . أو الإسهاب المطول لإسهابه ،
و لكن يهتمّ بالمعنى على أن يقدَّم بنسق لغوي فنيّ في غاية من الاقتصاد .
ليمكن القارئ الشّغوف بفن القصّ القصير، أن يقرأ داخل اللّغة intra - linguistique
لأنّ القراءة السّطحية، لا تجدي نفعاً إزاء هذا النّوع من القصّ .إذ لا بد
من قراءة ما بين السّطور القليلة . و خلف الكلمات المعدودة . فهناك لغة
التّضمين homonymique
و إذا كانت القصّة القصيرة جداً و صاحبها كما رأينا ، يبقى من الضّروري أن
نقول صراحة ، إنّ هذا الفن ليس من السّهولــة في شيء. لكن كم هو سهل على من
يستسهله ، فيكتب جملا تدخل في إطار ما يعرف بالكتابة البيضاء écriture blanche التي لا تدل إلا على اللاشيئية nullité
ويعتقد أنّه دخل صرح القصة القصيرة من بابها الواسع . إلا أنّه ينبغي أن
نقول :إنّ رواد هذا الفن في عالمنا العربي قلة قليلة . أمّا الكثرة الكثيرة
، فهي من تكتب خارج دائرة هذا الفن . و تعتقد نفسها ـ في غياب النّقد و
المتابعة ـ أنها داخل الدّائرة .
أعتقد ـ جازماً ـ أنّ الذي لم يزاول كتابة القصّة القصيرة والقصّة ، و الذي
لم تتوفر فيه بعض من الصّفات الآنفة الذّكر . فهو كاتب يبحث له عن اسم في
فن لا يعرفه. و في لغة لا يحسن سبكها ، و صياغتها، لأنّها لغة السنتمتر
وأقل .و لغة التكثيف الفني . و هذا يدعونا لنوضح ذلك قليلا :
1 ــ التّكثيف: عملية ضرورية في مجال القصّة
القصيرة جداً . و لا أكتم أنّني ؛ حين أقرأ نصاً : منفرجاً ،منفتحاً،بلغة
إنشائية بسيطة وعادية ...ما يعرف بالإنجليزية natural langage أو حين أجد الفائض اللّغوي الذي لا يخدم النّص في شيء ما يعرف l'inguistic redundancy
أتضايق ، وأشعر أنّني أقرأ كلاماً عادياً ،لا صلة له بالفن ، فبالأحرى
القصّة القصيرة جداً. و هذا لا يعني أنّ التكثيف وحده يضمن نجاح القصّة ،
بل هناك عناصر أخرى لا بدّ منها . و إن كان ليس من الضّروري أن تكون كلّها
موجودة في النّص . بل ظروف الكتابة ، و معطيات النّص، و الحالة النّفسية
للمبدع .... كلّ ذلك يساهم في إظهار عناصر، و احتجاب أخرى... .
2 ــ الرّمـــز : الرّمز أداة و وسيلة و ليس غاية
. و هو يوظف بعناية في كلّ عمل فني : في الشّعر، في القصة ، في الرواية،
في الرسم التشكيلي ، في النّحث ،في المعمار، في الرّقص .... أستطيع أن
أعمّم و أقول: الرّمز يسكن الحياة كلّ الحياة .
و الرّمز كوسيلة حين يوظف فنياً ، يغني النّص ، و يحمله على الاختزال . و
يلعب دوراً جليلا في منحه بعداً ، ما كان ليتأتى بلغة واصفة مباشرة ... و
لكن له ضريبته الباهظة ،إذ يجعل النّص للخاصّة بل أحياناً لخاصّة الخاصّة ،
فماذا سيفهم القارئ العادي البسيط، أو المحدود الثقافة إذا وجد في قصيدة
أوقصة ... رموزاً كالتالي : تموز tammuz أدونيسAdonis عشتار Ishtar الفنيق phoenix سيزيف Sisyphus إيزريس Isis أوزريس Osiris....و
القائمة طويلة من الرموز الإغريقية و الفرعونية و الإنسانيــــــــة عموما
...لاشك أنّ هذه لا تقول شيئا حتى ـ ربّما لبعض المثقفين ـ و من تمَّ كانت
الرمزية كتابة نخبوية ، أو تجعل النّص نخبوياً .
و لتبسيط الرمز و جعله في المتناول . ترك بعض الأدباء الرموز العالمية ، و
لجؤوا إلى ابتداع رموز لغوية اجتماعية معروفة أو قد تعرف من سياق النّص ،
سواء كان شعـــــراً أو قصّة .و لكن الرّمز الذي يوظف توظيفاً فنياً : يرفع
قيمة النّص إبداعياً ، و يثريه دلالياً ، و يحمل القارئ بعيداً ، إلى
فضاءات لا يمكن أن تحددها الكلمات العادية ، أو التراكيب الواصفة البسيطة
...
3 ـ الحجــــــــم : أمّا من حيث الحجم ، فهناك خلاف كبير.
فحين أقرأ ما كتبته نتالي ساروت من قصص قصيرة جداً في كتاب بعنوان
(انفعالات)،أجد القصة عندها طويلة نسبياً دون أن أقول : و رقة . و لكن حين
أقرأ للقاص و الروائي الكبير ارنست همنغواي ،أجده قد كتب يوما ً قصة قصيرة
جداً في خمس كلمات و هي : (للبيع، حذاء أطفال، غير مستهلك
)، وأن بعض المواقع الأدبية أعلنت عن مسابقات للقصّة القصيرة جداً بشرط أن
تكون كلماتها محصورة بين كلمتين إلى ثلاثمائة كلمة . بل و أجد رأياً آخر
يحصر القصّة القصيرة جداً في 60 كلمة و ينصح الكاتبَ لكي يحافظ على المجموع
(60) كلمة أو أقل ينبغي أن يضع (60) سطراً مرقماً على أساس أن يتضمن ـ
أثناء الكتابة ـ كلّ سطر كلمة . و في هذا خلاف .....
فالقصة القصيرة جداً إن جاءت في نصف صفحة.أو في فقرتين من ثلاث مائة كلمة،
أوأقل كمائة كلمة ، أو ستين و بدون شطط و لا زيادة غير مرغوب فيها؛ فهذا
جميل . و عموماً التّكثيف و الإيجاز و اللّغة الشّعرية ... كلّ ذلك لا يسمح
بالاستطراد و الشّطط والإطناب . و من تمّ أجد مبدع القصّة القصيرة جداً؛
من المبدعين البلغاء . فهو إن لم يكن بليغاً و متمكناً من ضروب البلاغة، لا
يمكنه أن يأتي بالحدث في إيجاز بليغ فنيّ ، و إن حاول ذلك مــراراً.
4 ـ الراوي العليم أوالرؤية من خلف .
فهي من أخطر الرؤى الممكنة . كيف ذلك ؟ فالراوي الذي يعرف كلّ شيء؛ يبَسط
النّسيج الفنيّ ، و يحلّ عقد البناء القصصيّ، و يكشف كلّ الأوراق ... ما
يجعل النّص؛ نصاً عادياً خال من المتعة و التّشويق ...ما لم يتحكم الكاتب
في السّارد بذكاء و تبصّر، فينطقه حيث ينبغي له النّطق . و يسكته حيث ينبغي
السّكوت ، ويجعله يتجاهل و يتغاضى ما ينبغي له فعل ذلك ...و لكن مع الأسف
هذا لا يحدث دائماً . فسرعان ما ينساق الكاتب نفسه ،خلف سارده المفترض،
فيرخي الحبل على الغارب دون شعور. فتكون النتيجة نصاً مباشراَ و كأنّه
تقرير مفتش شرطة ، أو ضابطة قضائية ، أو كاتب ضبط في محكمة ...
5 ـ القفلــــة Résolution:
القفلة هي جملة الختم شكلا ، ولكنها مناط الّسّرد عملا، فمنها ينطلق
التّأويل ، و إليها يستند الـتّعليل ، و عليها يندرج التّحليل ...
فهي ذات أهمية قصوى. حتّى أنّ البعض لا يرى قصّة قصيرة جداً بدون قفلة . و
إن كان لي رأي مخالف . فالقفلة ـ على ما هي عليه من أهمية ـ فقد يحدث ألا
يأتي بها القاصّ شريطة أن تكون القصـة على درجة عالية من التّكثيف ، أو
الرّمز ، أوالحذف والإضمار .. فنسقية النّص، و سياقهénonciation وتصويره البلاغي ....كلّ ذلك يجعل القفلــة استثنائية ، لأنّ ما سبقها ـ إن وجد ـ سيغطى على دلالتها و تأثيــرها .
و من خصائصها الملازمـــة التّالي :
1 ـ قفلة مفاجئة . غير متوقعة من قبل المتلقي . و لكن لها صلة بالموضوع .
2 ـ تحدث توثراً و انفعالا ، لنسقها الدّلالي و الّصدامي .
3 ـ تبعث على التّأمل و التّساؤل .
4 ـ تفتح آفاق التّأويل و التّحرّر من تخوم النّص .
5 ـ تأتي عفوية مع سياق الكتابة .
6 ـ لا تُصنّع ،و لا تعـدّ ، سواء من قبل أو من بعـد ، ففي ذلك تكلف .
7 ـ تضفي جمالية دلالية على النّص ، لما تكتنزه من معنى.
8 ـ تأتي على نسق بلاغي forme rhétorique يضفي مسحة فنية على النص .
9 ـتتسم بطابعها الوظيفي fonctionnel في النّص.
10 ـ تتسم بالميزة الجوهرانية essencialiste في النّص.
أمام هذه الخصائص كلّها ، متجمّعة أو في معظمها ، يتبن مقدار الأهمية
القصوى التي تحتلّها القفلـة . بل كثير من القصص القصيرة جداً تفقد دلالتها
و متعتها و قيمتهـا فقط ، لأنّ القفلة اصطناعية artificiel خالية من العفوية الفنّية .
6 ــ التيمة أو الموضوع :
القصّة القصيرة جداً تتسع لكلّ الأفكار الممكنة . لكن ما ينعكس على مرآة
النقد أن بعض كتاب القصة القصيرة قد يكررون أنفسهم ـ لا شعوريا ـ و لذلك
أسباب ذاتية و نفسية .
فأمّا الذّاتية: فتعود للقاص نفسه . فقد يكتب مجموعة من القصص في فترة
زمنية- متقاربة . و ذلك استجابة لداعي الإبداع . و تدفق الإلهام ، أو لدافع
تجاري يتعلق بالنّشر ... فلا يمكن للقاص غير المتمرس ، إحداث تميز كبير
بين نسيج العمل الأول وما يليه . بل الأدهى إن أعجب بعمله الأول ، أو كان
ممن يسحرهم الثناء و كلمات المجاملة الكاذبة . .. فسيتخذ من عمله نموذجاً
ينسج على منواله . و مع توالي الأعمال و قلة النقد و التّوجيه . يتعمّق
الخطأ و يتجذّر ،. فيصبح الإبداع في تعدد النّمط الواحد ، لا في ابتكار
الجديد .. وهذا يوجد في السينما مثلا . إذ يحدث لبعض المخرجين أن تلاقي
أفلامهم استحساناً فيتبعون نفس النّهج في الإخراج . إلى أن ينتشلهم النقد و
التقويم من دائرة النّمطية والتّكرار ....
أمّا ما هو نفسيّ : فهو الأصعب . لأنّ القاص يجد لذّة لا تعادلها لذّة في اجترار تيماتthèmes تسكنه و تسيطر على إحساسه وقدرة تمييزه فلا يكتب إلاوفق السمة المميزة trait distinctif في لا شعوره ، فيمنعه ذلك من التفكير في التحولات transformations
الممكنة .فيكون في ذلك كجمل الطاحونه المعصوب العينين يدور و يدير
الطاحونة . و لربّما يعتقد أنّه قطع مسافة طويلة ، حتى إذا أميط الغطاء عن
عينيه ، و جد نفسه مشدوداً إلى عمود الطاحونة و لم يبرحه قطعاً ... و هذا
ما توضحه بجلاء الأسلوبية التعبيرية stylistique de l'expression
و للتّخلص من النّمطية و التّكرار . يصبح من الضّروري على القاصّ الإكثار
من مطالعة القصص،في تنوع ...مع الاهتمام بالتنظير و النّقد القصصيّ . فهناك
من لا يقرأ إلا إنتاجه فقط . و هذا مؤسف جداً !! كما يجب عدم الشّعور ـ
مجرد الشّعور ـ بالوصول و النّضج الفنيّ .فذاك مدعاة للتقوقع و الانكفاء
حول الذّات . و على العكس من ذلك ينبغي للقاص الحلم دائماً بالقصّة التي لم
يكتبها بعد. و أن يكتب القصة فلا يعقبها بأخرى ، إلا بعد فترة يخصصها
للمطالعة فحسب . و لا يغتر بالثناء المجاني الخادع . الذي لا يستند على
برهان أو دليل. بل عليه أن يبتهج لأيّ عملية نقدية تقويمية ، تكشف بعض عيوب
نصّه . و ليكن ناقد أعماله . فيكفي أن يترك العمل فترة ثمّ يعود إليه،
متفحصاً متمعناً . فإنّه ولاشك سيجد ما يرضيه و ما لا يرضيه . و عموماً قد
يكرر القاص نفسه . سواء في موضوعاته ، أو طرائق الكتابة ، و نمطية الأسلوب .
و لن يخرج عن هذا المسار . إلا من كان يؤمن بالتجديد أسلوباً و نهجاً .
بين أيدينا الآن مجموعة من إنتاجات مختلفة في القصة القصيرة جداً .سواء
التي صدرت في مجموعات ، أو التي نثرت في مواقع إلكترونية ، و منتديات
ثقافية و أدبية ... كلّها تشهد أن هذا الجنس الأدبي الجميل ولد مكتملا ،
نتيجة تجربة القصة القصيرة ، و القصة عموما .
كما هناك ما أصبح يعرف بالومضة. و الومضة أصغر وحدة قصصية سردية، قد لا
تتعدى السطرين أو ثلاثة، تتميز عن غيرها ، أنّ الحدث يأتي كاملا لا يقبل
تطوراً. و تعتمد الدّهشة ، و المفاجأة ، و الدعوة إلى التّأمل فقط .
و في هذه المضمومة الكبيرة ، و الباقة الممتعة من الق ق ج... يبقى الاختلاف
في الرؤية ، و الكتابة ، و الأسلوب ،و الديباجة ..واردا.... و لكنها تعطي
صورة بانورامية عن هذه الكتابة الفنية الرائعة ، في عالمنا العربي . و إن
كانت كلها في حاجة إلى متابعة نقدية منهجية ...تحدد خصائصها ، و تبرز
محاسنها ، و تقف على نقائصها ...
======
د مسلك ميمون
| د/ مسلك ميمـــــون |
مكونات الإبداع في القصّة القصيرة جداً ''
القصة القصيرة جداً very short story بدعة فنية في إطار فن القصة. و أقول بدعة ، لأنّها شيء مستحدث . إذ لم تظهر في عالمنا العربي كفن و كتابة إلا في تسعينات القرن الماضي . و لكن استطاعت بسرعة أن تجد لها مكانا تحت الشمس، و وسط الزحام . بل استطاعت أن تملك مريدين و مريدات ، و معجبين ومعجبات. و قد تكون الفن الوحيد الذي لم يجد معارضة من المحافظين ، إلا ما لا يكاد يذكر .
ربّما لأنها ولدت مكتملة ، و إن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغاً للوجود في العصرالحاضر و متطلباته : من سرعة و ضيق للوقت، و كثرة الهموم اليومية التي تصرف الإنسان عن مطالعة النصوص الطويلة .... و يحاول البعض الآخر أن يبحث عن جذورها في التراث العربي سواء منه المعاصر أوالقديم . بغية إثبات شرعيتها في الوجود . كاعتبارها امتداداً طبيعياً لبعض كتابات رواد السّرد العرب و بخاصة كتاب (المستطرف في كل فن مسظرف) للأبشهي ، و كتابات نعيمة ، و جبران خليل
و لكن ـ عموماً ـ القصة القصيرة جداً وجدتْ لها مكاناً في الكتابة السّردية . وأصبحت تستقطب رواداً في الكتابة القصصية . و مهتمين دارسين في مجال السّرديات و التّحليل و النّقد رغم قلتهم ، في العالم العربي .
و تبعاً لذلك ، ينبغي أن نتعرف أولا على هذا النوع من الفن السّردي ، من خلال خصائصه . و نتساءل عن مبدعيه و مميزاتهم .
فالقصة القصيرة جداً عمل إبداعيّ فنيّ . يعتمد دقّة اللّغة ، و حسن التّعبير الموجز ، و اختيار الّلّفظة الدّالة ، التي تتّسم بالـدّور الوظيفيّ fonctionnel و التّركيز الشّديد في المعنى . و التّكثيف اللّغوي الذي يحيل و لا يُخبر . و لا يقبل الشّطط ، و لا الإسهاب ، و لا الاستطراد، و لا التّرادف ، و لا الجمل الاعتراضية ، و لا الجمل التّفسيرية .... و يستهدف المضمون الذي يقبل التّأويل ، و لا يستقر على دلالة واحدة . بمعنى يسمح بتعدّد القراءات ...و وجهات النظر المختلفة ...
إذاكانت القصة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرس خبير باللّغة . قاص بارع في البلاغة : متقن للّغـة المجازية langage figuré متنبه لكمياء الألفاظ ، و فلسفة المعنى ، و عمق الدّلالة . قاص لا تتحكم فيه حلاوة الألفاظ ؛ فيقتنصها لحلاوتها ، بل لما يمكن أن تخدم به السّياق المقتضب . قاصّ لا يغتر بالقصر المجمل لقصره . أو الإسهاب المطول لإسهابه ، و لكن يهتمّ بالمعنى على أن يقدَّم بنسق لغوي فنيّ في غاية من الاقتصاد . ليمكن القارئ الشّغوف بفن القصّ القصير، أن يقرأ داخل اللّغة intra - linguistique لأنّ القراءة السّطحية، لا تجدي نفعاً إزاء هذا النّوع من القصّ .إذ لا بد من قراءة ما بين السّطور القليلة . و خلف الكلمات المعدودة . فهناك لغة التّضمين homonymique
و إذا كانت القصّة القصيرة جداً و صاحبها كما رأينا ، يبقى من الضّروري أن نقول صراحة ، إنّ هذا الفن ليس من السّهولــة في شيء. لكن كم هو سهل على من يستسهله ، فيكتب جملا تدخل في إطار ما يعرف بالكتابة البيضاء écriture blanche التي لا تدل إلا على اللاشيئية nullité ويعتقد أنّه دخل صرح القصة القصيرة من بابها الواسع . إلا أنّه ينبغي أن نقول :إنّ رواد هذا الفن في عالمنا العربي قلة قليلة . أمّا الكثرة الكثيرة ، فهي من تكتب خارج دائرة هذا الفن . و تعتقد نفسها ـ في غياب النّقد و المتابعة ـ أنها داخل الدّائرة .
أعتقد ـ جازماً ـ أنّ الذي لم يزاول كتابة القصّة القصيرة والقصّة ، و الذي لم تتوفر فيه بعض من الصّفات الآنفة الذّكر . فهو كاتب يبحث له عن اسم في فن لا يعرفه. و في لغة لا يحسن سبكها ، و صياغتها، لأنّها لغة السنتمتر وأقل .و لغة التكثيف الفني . و هذا يدعونا لنوضح ذلك قليلا :
1 ــ التّكثيف: عملية ضرورية في مجال القصّة القصيرة جداً . و لا أكتم أنّني ؛ حين أقرأ نصاً : منفرجاً ،منفتحاً،بلغة إنشائية بسيطة وعادية ...ما يعرف بالإنجليزية natural langage أو حين أجد الفائض اللّغوي الذي لا يخدم النّص في شيء ما يعرف l'inguistic redundancy أتضايق ، وأشعر أنّني أقرأ كلاماً عادياً ،لا صلة له بالفن ، فبالأحرى القصّة القصيرة جداً. و هذا لا يعني أنّ التكثيف وحده يضمن نجاح القصّة ، بل هناك عناصر أخرى لا بدّ منها . و إن كان ليس من الضّروري أن تكون كلّها موجودة في النّص . بل ظروف الكتابة ، و معطيات النّص، و الحالة النّفسية للمبدع .... كلّ ذلك يساهم في إظهار عناصر، و احتجاب أخرى... .
2 ــ الرّمـــز : الرّمز أداة و وسيلة و ليس غاية . و هو يوظف بعناية في كلّ عمل فني : في الشّعر، في القصة ، في الرواية، في الرسم التشكيلي ، في النّحث ،في المعمار، في الرّقص .... أستطيع أن أعمّم و أقول: الرّمز يسكن الحياة كلّ الحياة .
و الرّمز كوسيلة حين يوظف فنياً ، يغني النّص ، و يحمله على الاختزال . و يلعب دوراً جليلا في منحه بعداً ، ما كان ليتأتى بلغة واصفة مباشرة ... و لكن له ضريبته الباهظة ،إذ يجعل النّص للخاصّة بل أحياناً لخاصّة الخاصّة ، فماذا سيفهم القارئ العادي البسيط، أو المحدود الثقافة إذا وجد في قصيدة أوقصة ... رموزاً كالتالي : تموز tammuz أدونيسAdonis عشتار Ishtar الفنيق phoenix سيزيف Sisyphus إيزريس Isis أوزريس Osiris....و القائمة طويلة من الرموز الإغريقية و الفرعونية و الإنسانيــــــــة عموما ...لاشك أنّ هذه لا تقول شيئا حتى ـ ربّما لبعض المثقفين ـ و من تمَّ كانت الرمزية كتابة نخبوية ، أو تجعل النّص نخبوياً .
و لتبسيط الرمز و جعله في المتناول . ترك بعض الأدباء الرموز العالمية ، و لجؤوا إلى ابتداع رموز لغوية اجتماعية معروفة أو قد تعرف من سياق النّص ، سواء كان شعـــــراً أو قصّة .و لكن الرّمز الذي يوظف توظيفاً فنياً : يرفع قيمة النّص إبداعياً ، و يثريه دلالياً ، و يحمل القارئ بعيداً ، إلى فضاءات لا يمكن أن تحددها الكلمات العادية ، أو التراكيب الواصفة البسيطة ...
3 ـ الحجــــــــم : أمّا من حيث الحجم ، فهناك خلاف كبير.
فحين أقرأ ما كتبته نتالي ساروت من قصص قصيرة جداً في كتاب بعنوان (انفعالات)،أجد القصة عندها طويلة نسبياً دون أن أقول : و رقة . و لكن حين أقرأ للقاص و الروائي الكبير ارنست همنغواي ،أجده قد كتب يوما ً قصة قصيرة جداً في خمس كلمات و هي : (للبيع، حذاء أطفال، غير مستهلك )، وأن بعض المواقع الأدبية أعلنت عن مسابقات للقصّة القصيرة جداً بشرط أن تكون كلماتها محصورة بين كلمتين إلى ثلاثمائة كلمة . بل و أجد رأياً آخر يحصر القصّة القصيرة جداً في 60 كلمة و ينصح الكاتبَ لكي يحافظ على المجموع (60) كلمة أو أقل ينبغي أن يضع (60) سطراً مرقماً على أساس أن يتضمن ـ أثناء الكتابة ـ كلّ سطر كلمة . و في هذا خلاف .....
فالقصة القصيرة جداً إن جاءت في نصف صفحة.أو في فقرتين من ثلاث مائة كلمة، أوأقل كمائة كلمة ، أو ستين و بدون شطط و لا زيادة غير مرغوب فيها؛ فهذا جميل . و عموماً التّكثيف و الإيجاز و اللّغة الشّعرية ... كلّ ذلك لا يسمح بالاستطراد و الشّطط والإطناب . و من تمّ أجد مبدع القصّة القصيرة جداً؛ من المبدعين البلغاء . فهو إن لم يكن بليغاً و متمكناً من ضروب البلاغة، لا يمكنه أن يأتي بالحدث في إيجاز بليغ فنيّ ، و إن حاول ذلك مــراراً.
4 ـ الراوي العليم أوالرؤية من خلف . فهي من أخطر الرؤى الممكنة . كيف ذلك ؟ فالراوي الذي يعرف كلّ شيء؛ يبَسط النّسيج الفنيّ ، و يحلّ عقد البناء القصصيّ، و يكشف كلّ الأوراق ... ما يجعل النّص؛ نصاً عادياً خال من المتعة و التّشويق ...ما لم يتحكم الكاتب في السّارد بذكاء و تبصّر، فينطقه حيث ينبغي له النّطق . و يسكته حيث ينبغي السّكوت ، ويجعله يتجاهل و يتغاضى ما ينبغي له فعل ذلك ...و لكن مع الأسف هذا لا يحدث دائماً . فسرعان ما ينساق الكاتب نفسه ،خلف سارده المفترض، فيرخي الحبل على الغارب دون شعور. فتكون النتيجة نصاً مباشراَ و كأنّه تقرير مفتش شرطة ، أو ضابطة قضائية ، أو كاتب ضبط في محكمة ...
5 ـ القفلــــة Résolution: القفلة هي جملة الختم شكلا ، ولكنها مناط الّسّرد عملا، فمنها ينطلق التّأويل ، و إليها يستند الـتّعليل ، و عليها يندرج التّحليل ...
فهي ذات أهمية قصوى. حتّى أنّ البعض لا يرى قصّة قصيرة جداً بدون قفلة . و إن كان لي رأي مخالف . فالقفلة ـ على ما هي عليه من أهمية ـ فقد يحدث ألا يأتي بها القاصّ شريطة أن تكون القصـة على درجة عالية من التّكثيف ، أو الرّمز ، أوالحذف والإضمار .. فنسقية النّص، و سياقهénonciation وتصويره البلاغي ....كلّ ذلك يجعل القفلــة استثنائية ، لأنّ ما سبقها ـ إن وجد ـ سيغطى على دلالتها و تأثيــرها .
و من خصائصها الملازمـــة التّالي :
1 ـ قفلة مفاجئة . غير متوقعة من قبل المتلقي . و لكن لها صلة بالموضوع .
2 ـ تحدث توثراً و انفعالا ، لنسقها الدّلالي و الّصدامي .
3 ـ تبعث على التّأمل و التّساؤل .
4 ـ تفتح آفاق التّأويل و التّحرّر من تخوم النّص .
5 ـ تأتي عفوية مع سياق الكتابة .
6 ـ لا تُصنّع ،و لا تعـدّ ، سواء من قبل أو من بعـد ، ففي ذلك تكلف .
7 ـ تضفي جمالية دلالية على النّص ، لما تكتنزه من معنى.
8 ـ تأتي على نسق بلاغي forme rhétorique يضفي مسحة فنية على النص .
9 ـتتسم بطابعها الوظيفي fonctionnel في النّص.
10 ـ تتسم بالميزة الجوهرانية essencialiste في النّص.
أمام هذه الخصائص كلّها ، متجمّعة أو في معظمها ، يتبن مقدار الأهمية القصوى التي تحتلّها القفلـة . بل كثير من القصص القصيرة جداً تفقد دلالتها و متعتها و قيمتهـا فقط ، لأنّ القفلة اصطناعية artificiel خالية من العفوية الفنّية .
6 ــ التيمة أو الموضوع : القصّة القصيرة جداً تتسع لكلّ الأفكار الممكنة . لكن ما ينعكس على مرآة النقد أن بعض كتاب القصة القصيرة قد يكررون أنفسهم ـ لا شعوريا ـ و لذلك أسباب ذاتية و نفسية .
فأمّا الذّاتية: فتعود للقاص نفسه . فقد يكتب مجموعة من القصص في فترة زمنية- متقاربة . و ذلك استجابة لداعي الإبداع . و تدفق الإلهام ، أو لدافع تجاري يتعلق بالنّشر ... فلا يمكن للقاص غير المتمرس ، إحداث تميز كبير بين نسيج العمل الأول وما يليه . بل الأدهى إن أعجب بعمله الأول ، أو كان ممن يسحرهم الثناء و كلمات المجاملة الكاذبة . .. فسيتخذ من عمله نموذجاً ينسج على منواله . و مع توالي الأعمال و قلة النقد و التّوجيه . يتعمّق الخطأ و يتجذّر ،. فيصبح الإبداع في تعدد النّمط الواحد ، لا في ابتكار الجديد .. وهذا يوجد في السينما مثلا . إذ يحدث لبعض المخرجين أن تلاقي أفلامهم استحساناً فيتبعون نفس النّهج في الإخراج . إلى أن ينتشلهم النقد و التقويم من دائرة النّمطية والتّكرار ....
أمّا ما هو نفسيّ : فهو الأصعب . لأنّ القاص يجد لذّة لا تعادلها لذّة في اجترار تيماتthèmes تسكنه و تسيطر على إحساسه وقدرة تمييزه فلا يكتب إلاوفق السمة المميزة trait distinctif في لا شعوره ، فيمنعه ذلك من التفكير في التحولات transformations الممكنة .فيكون في ذلك كجمل الطاحونه المعصوب العينين يدور و يدير الطاحونة . و لربّما يعتقد أنّه قطع مسافة طويلة ، حتى إذا أميط الغطاء عن عينيه ، و جد نفسه مشدوداً إلى عمود الطاحونة و لم يبرحه قطعاً ... و هذا ما توضحه بجلاء الأسلوبية التعبيرية stylistique de l'expression
و للتّخلص من النّمطية و التّكرار . يصبح من الضّروري على القاصّ الإكثار من مطالعة القصص،في تنوع ...مع الاهتمام بالتنظير و النّقد القصصيّ . فهناك من لا يقرأ إلا إنتاجه فقط . و هذا مؤسف جداً !! كما يجب عدم الشّعور ـ مجرد الشّعور ـ بالوصول و النّضج الفنيّ .فذاك مدعاة للتقوقع و الانكفاء حول الذّات . و على العكس من ذلك ينبغي للقاص الحلم دائماً بالقصّة التي لم يكتبها بعد. و أن يكتب القصة فلا يعقبها بأخرى ، إلا بعد فترة يخصصها للمطالعة فحسب . و لا يغتر بالثناء المجاني الخادع . الذي لا يستند على برهان أو دليل. بل عليه أن يبتهج لأيّ عملية نقدية تقويمية ، تكشف بعض عيوب نصّه . و ليكن ناقد أعماله . فيكفي أن يترك العمل فترة ثمّ يعود إليه، متفحصاً متمعناً . فإنّه ولاشك سيجد ما يرضيه و ما لا يرضيه . و عموماً قد يكرر القاص نفسه . سواء في موضوعاته ، أو طرائق الكتابة ، و نمطية الأسلوب . و لن يخرج عن هذا المسار . إلا من كان يؤمن بالتجديد أسلوباً و نهجاً .
بين أيدينا الآن مجموعة من إنتاجات مختلفة في القصة القصيرة جداً .سواء التي صدرت في مجموعات ، أو التي نثرت في مواقع إلكترونية ، و منتديات ثقافية و أدبية ... كلّها تشهد أن هذا الجنس الأدبي الجميل ولد مكتملا ، نتيجة تجربة القصة القصيرة ، و القصة عموما .
كما هناك ما أصبح يعرف بالومضة. و الومضة أصغر وحدة قصصية سردية، قد لا تتعدى السطرين أو ثلاثة، تتميز عن غيرها ، أنّ الحدث يأتي كاملا لا يقبل تطوراً. و تعتمد الدّهشة ، و المفاجأة ، و الدعوة إلى التّأمل فقط .
و في هذه المضمومة الكبيرة ، و الباقة الممتعة من الق ق ج... يبقى الاختلاف في الرؤية ، و الكتابة ، و الأسلوب ،و الديباجة ..واردا.... و لكنها تعطي صورة بانورامية عن هذه الكتابة الفنية الرائعة ، في عالمنا العربي . و إن كانت كلها في حاجة إلى متابعة نقدية منهجية ...تحدد خصائصها ، و تبرز محاسنها ، و تقف على نقائصها ...
======
د مسلك ميمون
القصة القصيرة جداً very short story بدعة فنية في إطار فن القصة. و أقول بدعة ، لأنّها شيء مستحدث . إذ لم تظهر في عالمنا العربي كفن و كتابة إلا في تسعينات القرن الماضي . و لكن استطاعت بسرعة أن تجد لها مكانا تحت الشمس، و وسط الزحام . بل استطاعت أن تملك مريدين و مريدات ، و معجبين ومعجبات. و قد تكون الفن الوحيد الذي لم يجد معارضة من المحافظين ، إلا ما لا يكاد يذكر .
ربّما لأنها ولدت مكتملة ، و إن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغاً للوجود في العصرالحاضر و متطلباته : من سرعة و ضيق للوقت، و كثرة الهموم اليومية التي تصرف الإنسان عن مطالعة النصوص الطويلة .... و يحاول البعض الآخر أن يبحث عن جذورها في التراث العربي سواء منه المعاصر أوالقديم . بغية إثبات شرعيتها في الوجود . كاعتبارها امتداداً طبيعياً لبعض كتابات رواد السّرد العرب و بخاصة كتاب (المستطرف في كل فن مسظرف) للأبشهي ، و كتابات نعيمة ، و جبران خليل
و لكن ـ عموماً ـ القصة القصيرة جداً وجدتْ لها مكاناً في الكتابة السّردية . وأصبحت تستقطب رواداً في الكتابة القصصية . و مهتمين دارسين في مجال السّرديات و التّحليل و النّقد رغم قلتهم ، في العالم العربي .
و تبعاً لذلك ، ينبغي أن نتعرف أولا على هذا النوع من الفن السّردي ، من خلال خصائصه . و نتساءل عن مبدعيه و مميزاتهم .
فالقصة القصيرة جداً عمل إبداعيّ فنيّ . يعتمد دقّة اللّغة ، و حسن التّعبير الموجز ، و اختيار الّلّفظة الدّالة ، التي تتّسم بالـدّور الوظيفيّ fonctionnel و التّركيز الشّديد في المعنى . و التّكثيف اللّغوي الذي يحيل و لا يُخبر . و لا يقبل الشّطط ، و لا الإسهاب ، و لا الاستطراد، و لا التّرادف ، و لا الجمل الاعتراضية ، و لا الجمل التّفسيرية .... و يستهدف المضمون الذي يقبل التّأويل ، و لا يستقر على دلالة واحدة . بمعنى يسمح بتعدّد القراءات ...و وجهات النظر المختلفة ...
إذاكانت القصة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرس خبير باللّغة . قاص بارع في البلاغة : متقن للّغـة المجازية langage figuré متنبه لكمياء الألفاظ ، و فلسفة المعنى ، و عمق الدّلالة . قاص لا تتحكم فيه حلاوة الألفاظ ؛ فيقتنصها لحلاوتها ، بل لما يمكن أن تخدم به السّياق المقتضب . قاصّ لا يغتر بالقصر المجمل لقصره . أو الإسهاب المطول لإسهابه ، و لكن يهتمّ بالمعنى على أن يقدَّم بنسق لغوي فنيّ في غاية من الاقتصاد . ليمكن القارئ الشّغوف بفن القصّ القصير، أن يقرأ داخل اللّغة intra - linguistique لأنّ القراءة السّطحية، لا تجدي نفعاً إزاء هذا النّوع من القصّ .إذ لا بد من قراءة ما بين السّطور القليلة . و خلف الكلمات المعدودة . فهناك لغة التّضمين homonymique
و إذا كانت القصّة القصيرة جداً و صاحبها كما رأينا ، يبقى من الضّروري أن نقول صراحة ، إنّ هذا الفن ليس من السّهولــة في شيء. لكن كم هو سهل على من يستسهله ، فيكتب جملا تدخل في إطار ما يعرف بالكتابة البيضاء écriture blanche التي لا تدل إلا على اللاشيئية nullité ويعتقد أنّه دخل صرح القصة القصيرة من بابها الواسع . إلا أنّه ينبغي أن نقول :إنّ رواد هذا الفن في عالمنا العربي قلة قليلة . أمّا الكثرة الكثيرة ، فهي من تكتب خارج دائرة هذا الفن . و تعتقد نفسها ـ في غياب النّقد و المتابعة ـ أنها داخل الدّائرة .
أعتقد ـ جازماً ـ أنّ الذي لم يزاول كتابة القصّة القصيرة والقصّة ، و الذي لم تتوفر فيه بعض من الصّفات الآنفة الذّكر . فهو كاتب يبحث له عن اسم في فن لا يعرفه. و في لغة لا يحسن سبكها ، و صياغتها، لأنّها لغة السنتمتر وأقل .و لغة التكثيف الفني . و هذا يدعونا لنوضح ذلك قليلا :
1 ــ التّكثيف: عملية ضرورية في مجال القصّة القصيرة جداً . و لا أكتم أنّني ؛ حين أقرأ نصاً : منفرجاً ،منفتحاً،بلغة إنشائية بسيطة وعادية ...ما يعرف بالإنجليزية natural langage أو حين أجد الفائض اللّغوي الذي لا يخدم النّص في شيء ما يعرف l'inguistic redundancy أتضايق ، وأشعر أنّني أقرأ كلاماً عادياً ،لا صلة له بالفن ، فبالأحرى القصّة القصيرة جداً. و هذا لا يعني أنّ التكثيف وحده يضمن نجاح القصّة ، بل هناك عناصر أخرى لا بدّ منها . و إن كان ليس من الضّروري أن تكون كلّها موجودة في النّص . بل ظروف الكتابة ، و معطيات النّص، و الحالة النّفسية للمبدع .... كلّ ذلك يساهم في إظهار عناصر، و احتجاب أخرى... .
2 ــ الرّمـــز : الرّمز أداة و وسيلة و ليس غاية . و هو يوظف بعناية في كلّ عمل فني : في الشّعر، في القصة ، في الرواية، في الرسم التشكيلي ، في النّحث ،في المعمار، في الرّقص .... أستطيع أن أعمّم و أقول: الرّمز يسكن الحياة كلّ الحياة .
و الرّمز كوسيلة حين يوظف فنياً ، يغني النّص ، و يحمله على الاختزال . و يلعب دوراً جليلا في منحه بعداً ، ما كان ليتأتى بلغة واصفة مباشرة ... و لكن له ضريبته الباهظة ،إذ يجعل النّص للخاصّة بل أحياناً لخاصّة الخاصّة ، فماذا سيفهم القارئ العادي البسيط، أو المحدود الثقافة إذا وجد في قصيدة أوقصة ... رموزاً كالتالي : تموز tammuz أدونيسAdonis عشتار Ishtar الفنيق phoenix سيزيف Sisyphus إيزريس Isis أوزريس Osiris....و القائمة طويلة من الرموز الإغريقية و الفرعونية و الإنسانيــــــــة عموما ...لاشك أنّ هذه لا تقول شيئا حتى ـ ربّما لبعض المثقفين ـ و من تمَّ كانت الرمزية كتابة نخبوية ، أو تجعل النّص نخبوياً .
و لتبسيط الرمز و جعله في المتناول . ترك بعض الأدباء الرموز العالمية ، و لجؤوا إلى ابتداع رموز لغوية اجتماعية معروفة أو قد تعرف من سياق النّص ، سواء كان شعـــــراً أو قصّة .و لكن الرّمز الذي يوظف توظيفاً فنياً : يرفع قيمة النّص إبداعياً ، و يثريه دلالياً ، و يحمل القارئ بعيداً ، إلى فضاءات لا يمكن أن تحددها الكلمات العادية ، أو التراكيب الواصفة البسيطة ...
3 ـ الحجــــــــم : أمّا من حيث الحجم ، فهناك خلاف كبير.
فحين أقرأ ما كتبته نتالي ساروت من قصص قصيرة جداً في كتاب بعنوان (انفعالات)،أجد القصة عندها طويلة نسبياً دون أن أقول : و رقة . و لكن حين أقرأ للقاص و الروائي الكبير ارنست همنغواي ،أجده قد كتب يوما ً قصة قصيرة جداً في خمس كلمات و هي : (للبيع، حذاء أطفال، غير مستهلك )، وأن بعض المواقع الأدبية أعلنت عن مسابقات للقصّة القصيرة جداً بشرط أن تكون كلماتها محصورة بين كلمتين إلى ثلاثمائة كلمة . بل و أجد رأياً آخر يحصر القصّة القصيرة جداً في 60 كلمة و ينصح الكاتبَ لكي يحافظ على المجموع (60) كلمة أو أقل ينبغي أن يضع (60) سطراً مرقماً على أساس أن يتضمن ـ أثناء الكتابة ـ كلّ سطر كلمة . و في هذا خلاف .....
فالقصة القصيرة جداً إن جاءت في نصف صفحة.أو في فقرتين من ثلاث مائة كلمة، أوأقل كمائة كلمة ، أو ستين و بدون شطط و لا زيادة غير مرغوب فيها؛ فهذا جميل . و عموماً التّكثيف و الإيجاز و اللّغة الشّعرية ... كلّ ذلك لا يسمح بالاستطراد و الشّطط والإطناب . و من تمّ أجد مبدع القصّة القصيرة جداً؛ من المبدعين البلغاء . فهو إن لم يكن بليغاً و متمكناً من ضروب البلاغة، لا يمكنه أن يأتي بالحدث في إيجاز بليغ فنيّ ، و إن حاول ذلك مــراراً.
4 ـ الراوي العليم أوالرؤية من خلف . فهي من أخطر الرؤى الممكنة . كيف ذلك ؟ فالراوي الذي يعرف كلّ شيء؛ يبَسط النّسيج الفنيّ ، و يحلّ عقد البناء القصصيّ، و يكشف كلّ الأوراق ... ما يجعل النّص؛ نصاً عادياً خال من المتعة و التّشويق ...ما لم يتحكم الكاتب في السّارد بذكاء و تبصّر، فينطقه حيث ينبغي له النّطق . و يسكته حيث ينبغي السّكوت ، ويجعله يتجاهل و يتغاضى ما ينبغي له فعل ذلك ...و لكن مع الأسف هذا لا يحدث دائماً . فسرعان ما ينساق الكاتب نفسه ،خلف سارده المفترض، فيرخي الحبل على الغارب دون شعور. فتكون النتيجة نصاً مباشراَ و كأنّه تقرير مفتش شرطة ، أو ضابطة قضائية ، أو كاتب ضبط في محكمة ...
5 ـ القفلــــة Résolution: القفلة هي جملة الختم شكلا ، ولكنها مناط الّسّرد عملا، فمنها ينطلق التّأويل ، و إليها يستند الـتّعليل ، و عليها يندرج التّحليل ...
فهي ذات أهمية قصوى. حتّى أنّ البعض لا يرى قصّة قصيرة جداً بدون قفلة . و إن كان لي رأي مخالف . فالقفلة ـ على ما هي عليه من أهمية ـ فقد يحدث ألا يأتي بها القاصّ شريطة أن تكون القصـة على درجة عالية من التّكثيف ، أو الرّمز ، أوالحذف والإضمار .. فنسقية النّص، و سياقهénonciation وتصويره البلاغي ....كلّ ذلك يجعل القفلــة استثنائية ، لأنّ ما سبقها ـ إن وجد ـ سيغطى على دلالتها و تأثيــرها .
و من خصائصها الملازمـــة التّالي :
1 ـ قفلة مفاجئة . غير متوقعة من قبل المتلقي . و لكن لها صلة بالموضوع .
2 ـ تحدث توثراً و انفعالا ، لنسقها الدّلالي و الّصدامي .
3 ـ تبعث على التّأمل و التّساؤل .
4 ـ تفتح آفاق التّأويل و التّحرّر من تخوم النّص .
5 ـ تأتي عفوية مع سياق الكتابة .
6 ـ لا تُصنّع ،و لا تعـدّ ، سواء من قبل أو من بعـد ، ففي ذلك تكلف .
7 ـ تضفي جمالية دلالية على النّص ، لما تكتنزه من معنى.
8 ـ تأتي على نسق بلاغي forme rhétorique يضفي مسحة فنية على النص .
9 ـتتسم بطابعها الوظيفي fonctionnel في النّص.
10 ـ تتسم بالميزة الجوهرانية essencialiste في النّص.
أمام هذه الخصائص كلّها ، متجمّعة أو في معظمها ، يتبن مقدار الأهمية القصوى التي تحتلّها القفلـة . بل كثير من القصص القصيرة جداً تفقد دلالتها و متعتها و قيمتهـا فقط ، لأنّ القفلة اصطناعية artificiel خالية من العفوية الفنّية .
6 ــ التيمة أو الموضوع : القصّة القصيرة جداً تتسع لكلّ الأفكار الممكنة . لكن ما ينعكس على مرآة النقد أن بعض كتاب القصة القصيرة قد يكررون أنفسهم ـ لا شعوريا ـ و لذلك أسباب ذاتية و نفسية .
فأمّا الذّاتية: فتعود للقاص نفسه . فقد يكتب مجموعة من القصص في فترة زمنية- متقاربة . و ذلك استجابة لداعي الإبداع . و تدفق الإلهام ، أو لدافع تجاري يتعلق بالنّشر ... فلا يمكن للقاص غير المتمرس ، إحداث تميز كبير بين نسيج العمل الأول وما يليه . بل الأدهى إن أعجب بعمله الأول ، أو كان ممن يسحرهم الثناء و كلمات المجاملة الكاذبة . .. فسيتخذ من عمله نموذجاً ينسج على منواله . و مع توالي الأعمال و قلة النقد و التّوجيه . يتعمّق الخطأ و يتجذّر ،. فيصبح الإبداع في تعدد النّمط الواحد ، لا في ابتكار الجديد .. وهذا يوجد في السينما مثلا . إذ يحدث لبعض المخرجين أن تلاقي أفلامهم استحساناً فيتبعون نفس النّهج في الإخراج . إلى أن ينتشلهم النقد و التقويم من دائرة النّمطية والتّكرار ....
أمّا ما هو نفسيّ : فهو الأصعب . لأنّ القاص يجد لذّة لا تعادلها لذّة في اجترار تيماتthèmes تسكنه و تسيطر على إحساسه وقدرة تمييزه فلا يكتب إلاوفق السمة المميزة trait distinctif في لا شعوره ، فيمنعه ذلك من التفكير في التحولات transformations الممكنة .فيكون في ذلك كجمل الطاحونه المعصوب العينين يدور و يدير الطاحونة . و لربّما يعتقد أنّه قطع مسافة طويلة ، حتى إذا أميط الغطاء عن عينيه ، و جد نفسه مشدوداً إلى عمود الطاحونة و لم يبرحه قطعاً ... و هذا ما توضحه بجلاء الأسلوبية التعبيرية stylistique de l'expression
و للتّخلص من النّمطية و التّكرار . يصبح من الضّروري على القاصّ الإكثار من مطالعة القصص،في تنوع ...مع الاهتمام بالتنظير و النّقد القصصيّ . فهناك من لا يقرأ إلا إنتاجه فقط . و هذا مؤسف جداً !! كما يجب عدم الشّعور ـ مجرد الشّعور ـ بالوصول و النّضج الفنيّ .فذاك مدعاة للتقوقع و الانكفاء حول الذّات . و على العكس من ذلك ينبغي للقاص الحلم دائماً بالقصّة التي لم يكتبها بعد. و أن يكتب القصة فلا يعقبها بأخرى ، إلا بعد فترة يخصصها للمطالعة فحسب . و لا يغتر بالثناء المجاني الخادع . الذي لا يستند على برهان أو دليل. بل عليه أن يبتهج لأيّ عملية نقدية تقويمية ، تكشف بعض عيوب نصّه . و ليكن ناقد أعماله . فيكفي أن يترك العمل فترة ثمّ يعود إليه، متفحصاً متمعناً . فإنّه ولاشك سيجد ما يرضيه و ما لا يرضيه . و عموماً قد يكرر القاص نفسه . سواء في موضوعاته ، أو طرائق الكتابة ، و نمطية الأسلوب . و لن يخرج عن هذا المسار . إلا من كان يؤمن بالتجديد أسلوباً و نهجاً .
بين أيدينا الآن مجموعة من إنتاجات مختلفة في القصة القصيرة جداً .سواء التي صدرت في مجموعات ، أو التي نثرت في مواقع إلكترونية ، و منتديات ثقافية و أدبية ... كلّها تشهد أن هذا الجنس الأدبي الجميل ولد مكتملا ، نتيجة تجربة القصة القصيرة ، و القصة عموما .
كما هناك ما أصبح يعرف بالومضة. و الومضة أصغر وحدة قصصية سردية، قد لا تتعدى السطرين أو ثلاثة، تتميز عن غيرها ، أنّ الحدث يأتي كاملا لا يقبل تطوراً. و تعتمد الدّهشة ، و المفاجأة ، و الدعوة إلى التّأمل فقط .
و في هذه المضمومة الكبيرة ، و الباقة الممتعة من الق ق ج... يبقى الاختلاف في الرؤية ، و الكتابة ، و الأسلوب ،و الديباجة ..واردا.... و لكنها تعطي صورة بانورامية عن هذه الكتابة الفنية الرائعة ، في عالمنا العربي . و إن كانت كلها في حاجة إلى متابعة نقدية منهجية ...تحدد خصائصها ، و تبرز محاسنها ، و تقف على نقائصها ...
======
د مسلك ميمون
